فصل: حجر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


حجر

التّعريف

1 - الحجر لغة المنع‏.‏ يقال‏:‏ حجر عليه حجرا منعه من التّصرّف فهو محجور عليه‏.‏ ومنه سمّي الحطيم حجرا لأنّه منع من أن يدخل في بناء الكعبة‏.‏ وقيل‏:‏ الحطيم جدار الحجر، والحجر ما حواه الجدر‏.‏ وسمّي العقل حجرا لأنّه يمنع من القبائح، قال تعالى‏:‏ ‏{‏هل في ذلك قسم لذي حجر‏}‏ أي لذي عقل‏.‏ وأمّا تعريفه في الاصطلاح فقد اختلفت فيه عبارات الفقهاء‏:‏ فعرّفه الشّافعيّة والحنابلة بأنّه المنع من التّصرّفات الماليّة، سواء أكان المنع قد شرع لمصلحة الغير كالحجر على المفلس للغرماء وعلى الرّاهن في المرهون لمصلحة المرتهن، وعلى المريض مرض الموت لحقّ الورثة في ثلثي ماله وغيرها، أم شرع لمصلحة المحجور عليه كالحجر على المجنون، والصّغير، والسّفيه‏.‏ وعرّفه الحنفيّة بأنّه منع من نفاذ تصرّف قوليّ - لا فعليّ - فإنّ عقد المحجور ينعقد موقوفا فلا ينفذ إلاّ بإجازة من له الحقّ في الإجازة‏.‏ وإنّما كان الحجر عند الحنفيّة من التّصرّفات القوليّة لأنّ تلك التّصرّفات هي الّتي يتصوّر الحجر فيها بالمنع من نفاذها‏.‏ أمّا التّصرّف الفعليّ فلا يتصوّر الحجر فيه، لأنّ الفعل بعد وقوعه لا يمكن ردّه، فلا يتصوّر الحجر عنه‏.‏ قال ابن عابدين نقلا عن بعض الحنفيّة ما مفاده‏:‏ الحجر على مراتب‏:‏ أقوى، وهو المنع عن أصل التّصرّف بعدم انعقاده ‏(‏البطلان‏)‏ كتصرّف المجنون‏.‏ ومتوسّط، وهو المنع عن وصفه وهو النّفاذ كتصرّف المميّز‏.‏ وضعيف، وهو المنع عن وصف وصفه، وهو كون النّفاذ حالّا مثل تأخير نفاذ الإقرار من المحجور عليه للإفلاس إلى ما بعد فكّ الحجر عنه‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ وقد أدخل في التّعريف المنع عن الفعل، ويظهر لي أنّ هذا هو التّحقيق، فإنّه إن جعل الحجر هو المنع من ثبوت حكم التّصرّف، فما وجه تقييده بالقولي ونفي الفعليّ مع أنّ لكلّ حكما ‏؟‏ وأمّا ما علّل به ‏(‏صاحب الدّرّ‏)‏ من قوله‏:‏ لأنّ الفعل بعد وقوعه لا يمكن ردّه، نقول‏:‏ الكلام في منع حكمه لا منع ذاته، ومثله‏:‏ القول، لا يمكن ردّه بذاته بعد وقوعه بل ردّ حكمه‏.‏ وعرّف المالكيّة الحجر بأنّه صفة حكميّة توجب منع موصوفها من نفوذ تصرّفه فيما زاد على قوّته، أو من نفوذ تبرّعه بزائد على ثلث ماله‏.‏ فدخل بالثّاني حجر المريض والزّوجة، ودخل بالأوّل حجر الصّبيّ والمجنون والسّفيه والمفلس والرّقيق فيمنعون من التّصرّف في الزّائد على القوت ولو كان التّصرّف غير تبرّع كالبيع والشّراء، وأمّا الزّوجة والمريض فلا يمنعان من التّصرّف إذا كان غير تبرّع أو كان تبرّعا وكان بثلث مالهما، وأمّا تبرّعهما بزائد على الثّلث فيمنعان منه‏.‏

مشروعيّة الحجر

2 - ثبتت مشروعيّة الحجر بالكتاب والسّنّة‏.‏ أمّا الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السّفهاء أموالكم الّتي جعل اللّه لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى حتّى إذا بلغوا النّكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإن كان الّذي عليه الحقّ سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليّه بالعدل‏}‏‏.‏ فسّر الشّافعيّ السّفيه بالمبذّر، والضّعيف بالصّبيّ والكبير المختلّ، والّذي لا يستطيع أن يملّ بالمغلوب على عقله، فأخبر اللّه تعالى أنّ هؤلاء ينوب عنهم أولياؤهم فدلّ على ثبوت الحجر عليهم‏.‏ وأمّا السّنّة فعن كعب بن مالك رضي الله عنه ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ رضي الله عنه ماله وباعه في دين كان عليه‏}‏ وروى الشّافعيّ في مسنده عن عروة بن الزّبير أنّ عثمان رضي الله عنه حجر على عبد اللّه بن جعفر رضي الله عنه بسبب تبذيره

حكمة تشريع الحجر

3 - قرّر الشّارع الحجر على من يصاب بخلل في عقله كجنون وعته حتّى تكون الأموال مصونة من الأيدي الّتي تسلب أموال النّاس بالباطل والغشّ والتّدليس‏.‏ وتكون مصونة أيضا من سوء تصرّف المالك‏.‏ وقرّر الحجر أيضا على من يسترسلون في غلواء الفسق والفجور والخلاعة ويبدّدون أموالهم ذات اليمين وذات الشّمال صونا لأموالهم، وحرصا على أرزاق أولادهم، ومن يعولونهم في حياتهم وبعد مماتهم‏.‏ كما شمل الحجر من يتعرّض للإفتاء وهو جاهل لا يعلم حقيقة الحكم الشّرعيّ فيضلّ ويضلّ وتصبح فتنة بين المسلمين من وراء فتياه، وكذا يحجر على الطّبيب الجاهل الّذي يداوي الأمّة وهو لا يعلم شيئا من فنّ الطّبّ، فتروح أرواح طاهرة بين يديه لجهله، وينتج من ذلك بلاء عظيم وخطب جسيم‏.‏ وكذا يحجر على المكاري المفلس، لأنّه يتلف أموال النّاس بالباطل‏.‏

أسباب الحجر

4 - اتّفق الفقهاء على أنّ الصّغر والجنون والرّقّ أسباب للحجر‏.‏ وذهب الجمهور إلى أنّ السّفه والمرض المتّصل بالموت أسباب للحجر أيضا‏.‏ واختلفوا في الحجر على الزّوجة - فيما زاد على الثّلث - وفي الحجر على المرتدّ لمصلحة المسلمين، وفي غيرهما على تفصيل يذكر فيما بعد‏.‏ تقسيم الحجر بحسب المصلحة‏:‏

5 - ينقسم الحجر بحسب المصلحة إلى قسمين‏:‏

أ - قسم شرع لمصلحة المحجور عليه ‏(‏غالبا‏)‏، وذلك كحجر المجنون والصّبيّ والسّفيه والمبذّر وغيرهم - على ما يأتي تفصيله - فالحجر في هذا القسم شرع لمصلحة هؤلاء حفظا لأموالهم من الضّياع‏.‏

ب - قسم شرع لمصلحة الغير ‏(‏غالبا‏)‏، وذلك كحجر المدين المفلس لحقّ الغرماء ‏(‏الدّائنين‏)‏، وحجر الرّاهن لحقّ المرتهن في العين المرهونة، وكحجر المريض مرض الموت لحقّ الورثة فيما زاد على ثلث التّركة حيث لا دين، وحجر الرّقيق لحقّ سيّده‏.‏

أوّلا - الحجر على الصّغير‏:‏

6 - يبدأ الصّغر من حين الولادة إلى مرحلة البلوغ، ولمعرفة متى يتمّ البلوغ ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏بلوغ‏)‏‏.‏ وقد أجمع الفقهاء على أنّ الصّغير الّذي لم يبلغ الحلم محجور عليه بحكم الشّرع حتّى يبلغ ثمّ يستمرّ الحجر عليه إلى أن يرشد‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى حتّى إذا بلغوا النّكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ وذلك لعدم أهليّة التّصرّف لقصور إدراكه‏.‏ وينتهي الحجر ببلوغه رشيدا عند عامّة الفقهاء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشدا‏}‏ أي‏:‏ أبصرتم وعلمتم منهم حفظا لأموالهم وصلاحهم في تدبيرهم‏.‏ ولا ينتهي الحجر بالنّسبة للصّبيّ ولا يدفع إليه ماله قبل وجود الأمرين البلوغ والرّشد ولو صار شيخا عند الجمهور خلافا لأبي حنيفة كما سيأتي‏.‏

أ - البلوغ‏:‏ البلوغ انتهاء فترة الصّغر والدّخول في حدّ الكبر وله أمارات طبيعيّة إنّ تحقّقت حكم به وإلاّ فيرجع للسّنّ على تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏بلوغ‏)‏‏.‏ ب - الرّشد‏:‏ الرّشد عند الجمهور ‏(‏من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو وجه عند الشّافعيّة‏)‏ هو الصّلاح في المال فقط‏.‏ وهذا قول أكثر أهل العلم للآية السّابقة‏.‏ ومن كان مصلحا لماله فقد وجد منه رشد، ولأنّ العدالة لا تعتبر في الرّشد في الدّوام‏.‏ فلا تعتبر في الابتداء كالزّهد في الدّنيا، ولأنّ هذا مصلح لماله فأشبه العدل، يحقّقه‏:‏ أنّ الحجر عليه إنّما كان لحفظ ماله عليه، فالمؤثّر فيه ما أثّر في تضييع المال أو حفظه‏.‏ ولو كان الرّشد صلاح الدّين فالحجر على الكافر أولى من الحجر على الفاسق‏.‏ ثمّ إن كان الفاسق ينفق أمواله في المعاصي كشراء الخمر وآلات اللّهو أو يتوصّل به إلى الفساد فهو غير رشيد لتبذيره لماله وتضييعه إيّاه في غير فائدة على الخلاف في ذلك، وإن كان فسقه لغير ذلك كالكذب ومنع الزّكاة وإضاعة الصّلاة مع حفظه لماله دفع ماله إليه، لأنّ المقصود بالحجر حفظ المال، وماله محفوظ بدون الحجر، ولذلك لو طرأ الفسق عليه بعد دفع ماله إليه لم ينزع‏.‏ والأصحّ عند الشّافعيّة أنّ الرّشد الصّلاح في الدّين والمال جميعا‏.‏ والآية عندهم عامّة لأنّ كلمة ‏"‏ رشدا ‏"‏ نكرة في سياق الشّرط فتعمّ المال والدّين، فالرّشيد هو من لا يفعل محرّما يبطل العدالة، ولا يبذّر بأن يضيّع المال باحتمال غبن فاحش في المعاملة، أو رميه في بحر، أو إنفاقه في محرّم‏.‏ قال القرطبيّ‏:‏ واختلف العلماء في تأويل ‏"‏ رشدا ‏"‏ في الآية فقال الحسن وقتادة وغيرهما‏:‏ صلاحا في العقل والدّين‏.‏ وقال ابن عبّاس والسّدّيّ والثّوريّ‏:‏ صلاحا في العقل وحفظ المال‏.‏ قال سعيد بن جبير والشّعبيّ‏:‏ إنّ الرّجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده‏.‏ فلا يدفع إلى اليتيم ماله ولو صار شيخا حتّى يؤنس منه رشده‏.‏ وهكذا قال الضّحّاك‏:‏ لا يعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتّى يعلم منه إصلاح ماله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ رشدا ‏"‏ يعني في العقل خاصّة‏.‏ وأكثر العلماء على أنّ الرّشد لا يكون إلاّ بعد البلوغ، وعلى أنّه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم وإن شاخ لا يزول الحجر عنه‏.‏

أثر الحجر على تصرّفات الصّغير

7 - سبق أنّ من لم يبلغ رشيدا محجور عليه، إلاّ أنّ بعض الفقهاء فرّق بين المميّز وغير المميّز في حكم تصرّفاته، هل تقع صحيحة غير نافذة أم تقع فاسدة ‏؟‏ وبيان ذلك فيما يلي‏:‏ ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يصحّ طلاق الصّبيّ ولا إقراره ولا عتقه ولو كان مميّزا، وإذا عقد الصّبيّ عقدا فيه نفع محض صحّ العقد كقبول الهبة والصّدقة‏.‏ وكذا إذا آجر نفسه ومضى على ذلك العمل وجبت الأجرة استحسانا‏.‏ وإذا عقد الصّبيّ عقدا يدور بين النّفع والضّرّ وكان يعقله ‏(‏أي يعلم أنّ البيع سالب للملك والشّراء جالب له‏)‏، فإن أجازه الوليّ صحّ، وإذا ردّه بطل العقد‏.‏ هذا إذا لم يتضمّن العقد غبنا فاحشا وإلاّ فهو باطل وإن أجازه الوليّ، وأمّا إذا كان لا يعقله فقد بطل العقد‏.‏ وإذا أتلف الصّبيّ - سواء عقل أم لا - شيئا متقوّما من مال أو نفس ضمنه، إذ لا حجر في التّصرّف الفعليّ، وتضمينه من باب خطاب الوضع وهو لا يتوقّف على التّكليف فيضمن الصّبيّ ما أتلفه من المال للحال، وإذا قتل فالدّية على عاقلته إلاّ في مسائل لا يضمن فيها لأنّه مسلّط من قبل المالك‏:‏ كما إذا أتلف ما اقترضه، وما أودع عنده بلا إذن وليّه، وكذا إذا أتلف ما أعير له وما بيع منه بلا إذن‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ الصّبيّ محجور عليه إلى أن يبلغ رشيدا، وزيد في الأنثى دخول الزّوج بها، وشهادة العدول على صلاح حالها‏.‏ ولو تصرّف الصّبيّ المميّز بمعاوضة بلا إذن وليّه كبيع وشراء وهبة الثّواب ‏(‏الهبة بعوض‏)‏ فللوليّ ردّ هذا التّصرّف، فإن كان التّصرّف بغير معاوضة تعيّن على الوليّ ردّه كإقرار بدين‏.‏ وللصّبيّ المميّز ردّ تصرّف نفسه قبل رشده إن رشد حيث تركه وليّه لعدم علمه بتصرّفه أو لسهوه أو للإعراض عن ذلك لغير مصلحة أو لم يكن له وليّ‏.‏ ولو حنث بعد رشده كما لو حلف حال صغره‏:‏ أنّه إن فعل كذا فزوجته طالق أو عبده حرّ، ففعله بعد رشده فله ردّه فلا يلزمه طلاق ولا عتق، وله إمضاؤه‏.‏ ولا يحجر على الصّبيّ والسّفيه فيما يتعلّق بضرورة العيش كدرهم مثلا، ولا يردّ فعله فيه إلاّ إذا كان لا يحسن التّصرّف فيه‏.‏ ويضمن الصّبيّ مميّزا كان أو غير مميّز ما أفسد من مال غيره في الذّمّة، فتؤخذ قيمة ما أفسده من ماله الحاضر إن كان، وإلاّ اتّبع بها في ذمّته إلى وجود مال، هذا إذا لم يؤتمن الصّبيّ على ما أتلفه، فإن اؤتمن عليه فلا ضمان عليه لأنّ من ائتمنه قد سلّطه على إتلافه، ولأنّه لو ضمن المحجور لبطلت فائدة الحجر‏.‏ واستثنى ابن عرفة‏:‏ الصّغير الّذي لم يزد عن شهر فلا ضمان عليه لأنّه كالعجماء‏.‏ وتصحّ وصيّة الصّبيّ المميّز إذا لم يخلّط فيها، فإن خلّط بأن تناقض فيها أو أوصى بغير قربة لم تصحّ‏.‏ وإنّ الزّوجة الحرّة الرّشيدة يحجر عليها لزوجها في تصرّف زائد على ثلث مالها وتبرّعها ماض حتّى يردّ‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الصّبيّ محجور عليه إلى البلوغ سواء أكان ذكرا أم أنثى، وسواء أكان مميّزا أم غير مميّز‏.‏ والصّبا يسلب الولاية والعبارة في المعاملة كالبيع، وفي الدّين كالإسلام، إلاّ ما استثني من عبادة من مميّز، لكنّه يثاب على الفريضة أقلّ من ثواب البالغ على النّافلة، ولعلّ وجهه عدم خطابه بها، وكان القياس أن لا ثواب أصلا لعدم خطابه بالعبادة، لكنّه أثيب ترغيبا له في العبادة، فلا يتركها بعد بلوغه إن شاء اللّه تعالى‏.‏ واستثني كذلك من المميّز الإذن في دخول الدّار، واستثني أيضا إيصال هديّة من مميّز مأمون أي لم يجرّب عليه كذب‏.‏ وللصّبيّ تملّك المباحات وإزالة المنكرات ويثاب عليها كالمكلّف، ويجوز توكيله في تفرقة الزّكاة إذا عيّن له المدفوع إليه‏.‏ وأمّا الحنابلة فقد قال في المغني‏:‏ والحكم في الصّبيّ والمجنون كالحكم في السّفيه في وجوب الضّمان عليهما فيما أتلفاه من مال غيرهما بغير إذنه أو غصباه فتلف في أيديهما، وانتفاء الضّمان عنهما فيما حصل في أيديهما باختيار صاحبه وتسليطه كالثّمن والمبيع والقرض والاستدانة، وأمّا الوديعة والعاريّة فلا ضمان عليهما فيما تلف بتفريطهما، وإن أتلفاه ففي ضمانه وجهان‏.‏

متى يدفع المال إلى الصّغير

8 - إذا بلغ الصّغير رشيدا أو بلغ غير رشيد ثمّ رشد دفع إليه ماله وفكّ الحجر عنه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى حتّى إذا بلغوا النّكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا يتم بعد احتلام‏}‏‏.‏ ولا يحتاج في هذا إلى حكم حاكم، لأنّ الحجر عليه ثبت بغير حكم حاكم فيزول من غير حكم وبه قال جمهور الفقهاء ‏(‏الحنفيّة والشّافعيّة - في المذهب - والحنابلة‏)‏‏.‏ ومقابل المذهب عند الشّافعيّة أنّ فكّ الحجر يفتقر إلى الحاكم، لأنّ الرّشد يحتاج إلى نظر واجتهاد‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ الصّغير إمّا أن يكون ذكرا أو أنثى‏:‏ فإن كان ذكرا فهو على ثلاثة أقسام‏:‏ أحدها‏:‏ أن يكون أبوه حيّا فإنّه ينفكّ الحجر عنه ببلوغه ما لم يظهر منه سفه أو يحجره أبوه‏.‏ الثّاني‏:‏ أن يكون أبوه قد مات وعليه وصيّ فلا ينفكّ الحجر عنه إلاّ بالتّرشيد‏.‏ فإن كان الوصيّ من الأب ‏(‏وهو الوصيّ المختار‏)‏ فله أن يرشّده من غير إذن القاضي، وإن كان الوصيّ مقدّما من قاض لم يكن له ترشيده إلاّ بإذن القاضي‏.‏ وقال الدّردير‏:‏ إنّ الحجر على الصّبيّ بالنّسبة لماله يكون لبلوغه مع صيرورته حافظا لماله بعده فقط إن كان ذا أب أو مع فكّ الوصيّ والمقدّم ‏(‏الوصيّ المعيّن من القاضي‏)‏ إن كان ذا وصيّ أو مقدّم فذو الأب بمجرّد صيرورته حافظا للمال بعد بلوغه ينفكّ الحجر عنه وإن لم يفكّه أبوه عنه، قال ابن عاشر‏:‏ يستثنى منه ما إذا حجر الأب عليه في وقت يجوز له ذلك وهو عنوان البلوغ، فإنّه لا ينفكّ الحجر عنه وإن كان حافظا للمال إلاّ لفكّ الأب‏.‏ وأمّا فكّ الحجر عنه من المقدّم والوصيّ فيحتاج بأن يقول للعدول‏:‏ أشهدوا أنّي فككت الحجر عن فلان وأطلقت له التّصرّف لما قام عندي من رشده وحسن تصرّفه، فتصرّفه بعد الفكّ لازم لا يردّ‏.‏ ولا يحتاج لإذن الحاكم في الفكّ‏.‏ الثّالث‏:‏ أن يبلغ ولا يكون له أب ولا وصيّ، وهو المهمل، فهو محمول على الرّشد إلاّ إن تبيّن سفهه‏.‏ وإن كانت أنثى فهي تنقسم إلى قسمين‏:‏ أحدها‏:‏ إن كانت ذات أب فإنّها إذا بلغت تبقى في حجره حتّى تتزوّج ويدخل بها زوجها وتبقى مدّة بعد الدّخول‏.‏ واختلف في تحديد تلك المدّة من عام إلى سبعة أعوام‏.‏ ويشترط أيضا حسن تصرّفها في المال وشهادة العدول بذلك‏.‏ الثّاني‏:‏ إن كانت ذات وصيّ أو مقدّم لا ينفكّ الحجر عنها إلاّ بهذه الأربعة ‏(‏وهي بلوغها، والدّخول بها، وبقاؤها مدّة بعد الدّخول، وثبوت حسن التّصرّف بشهادة العدول‏)‏ وفكّ الوصيّ أو المقدّم‏.‏ فإن لم يفكّا الحجر عنها بترشيدها كان تصرّفها مردودا ولو عنّست أو دخل بها الزّوج وطالت إقامتها عنده‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى أنّ الصّبيّ إن بلغ غير رشيد لم يدفع إليه ماله حتّى يبلغ خمسا وعشرين سنة وينفذ تصرّفه قبله ‏(‏أي قبل بلوغه هذه السّنّ مع إيناس الرّشد‏)‏ ويدفع إليه ماله متى بلغ المدّة ولو كان مفسدا‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدّلوا الخبيث بالطّيّب‏}‏ والمراد باليتيم هنا من بلغ، وسمّي في الآية يتيما لقربه من البلوغ، ولأنّه في أوّل أحوال البلوغ قد لا يفارقه السّفه باعتبار أثر الصّبا فقدّره أبو حنيفة بخمس وعشرين سنة، لأنّه حال كمال لبّه‏.‏ وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ ينتهي لبّ الرّجل إذا بلغ خمسا وعشرين سنة‏.‏ وقال أهل الطّبائع ‏(‏الأطبّاء‏)‏‏:‏ من بلغ خمسا وعشرين سنة فقد بلغ رشده، ألا ترى أنّه قد بلغ سنّا يتصوّر أن يصير فيها جدّا، لأنّ أدنى مدّة يبلغ فيها الغلام اثنتا عشرة سنة، فيولد له ولد لستّة أشهر، ثمّ الولد يبلغ في اثنتي عشرة سنة، فيولد له ولد لستّة أشهر، فقد صار بذلك جدّا، حتّى لو بلغ رشيدا ثمّ صار مبذّرا لم يمنع منه ماله، لأنّ هذا ليس بأثر الصّبا فلا يعتبر في منع المال، ولأنّ منع المال عنه على سبيل التّأديب عقوبة عليه، والاشتغال بالتّأديب عند رجاء التّأدّب، فإذا بلغ هذه السّنّ فقد انقطع رجاء التّأدّب فلا معنى لمنع المال بعده‏.‏

الحجر على المجنون

9 - الجنون هو اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهجه إلاّ نادرا‏.‏ وهو إمّا أن يكون مطبقا أو متقطّعا‏.‏ ولا خلاف بين الفقهاء في الحجر على المجنون سواء أكان الجنون أصليّا أم طارئا، وسواء أكان قويّا أم ضعيفا، والقويّ‏:‏ المطبق، والضّعيف‏:‏ غيره‏.‏ وقد اتّفق الفقهاء على أنّ الجنون من عوارض الأهليّة فهو يزيل أهليّة الأداء إن كان مطبقا، فلا تترتّب على تصرّفاته آثارها الشّرعيّة‏.‏ أمّا إذا كان الجنون متقطّعا فإنّه لا يمنع التّكليف في حال الإفاقة ولا ينفي أصل الوجوب‏.‏ وتفصيل ذلك كما يلي‏:‏ ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز تصرّف المجنون المغلوب بحال‏.‏ قال الحصكفيّ‏:‏ وأمّا الّذي يجنّ ويفيق فحكمه كمميّز‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ ومثله في المنح والدّرر وغاية البيان وكذا المعراج حيث فسّر المغلوب بالّذي لا يعقل أصلا‏.‏ ثمّ قال‏:‏ واحترز به عن المجنون الّذي يعقل البيع ويقصده فإنّ تصرّفه كتصرّف الصّبيّ العاقل وهذا هو المعتوه‏.‏ وجعله الزّيلعيّ في حال إفاقته كالعاقل، والمتبادر منه أنّه العاقل البالغ‏.‏ وهذا هو الّذي رجّحه ابن عابدين حيث قال‏:‏ إنّه كان ينبغي للشّارح ‏(‏الحصكفيّ صاحب الدّرّ‏)‏ أن يقول‏:‏ فحكمه كعاقل أي‏:‏ في حال إفاقته كما قاله الزّيلعيّ ليظهر للتّقييد بالمغلوب فائدة، فإنّه حيث كان غير المغلوب كمميّز لا يصحّ طلاقه ولا إعتاقه كالمغلوب‏.‏ وإذا أتلف المجنون شيئا مقوّما من مال أو نفس ضمنه إذ لا حجر في التّصرّف الفعليّ‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ المجنون لا يلزمه شيء من التّصرّفات إلاّ إذا أتلف شيئا ففي ماله، والدّية إن بلغت الثّلث فأكثر على عاقلته وإلاّ فعليه كالمال‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّه بالجنون تنسلب الولايات الثّابتة بالشّرع كولاية النّكاح، أو التّفويض كالإيصاء والقضاء لأنّه إذا لم يل أمر نفسه فأمر غيره أولى‏.‏ ولا تعتبر عبارة المجنون سواء أكانت له أم عليه في الدّين والدّنيا كالإسلام والمعاملات لعدم قصده‏.‏ وأمّا أفعاله فمنها ما هو معتبر كإحباله وإتلافه مال غيره وتقرير المهر بوطئه، وترتّب الحكم على إرضاعه والتقاطه واحتطابه واصطياده، وعمده عمد على الصّحيح أي‏:‏ حيث كان له نوع تمييز، ومنها ما هو غير معتبر كالصّدقة والهديّة‏.‏ وأمّا الحنابلة فقد سبق كلامهم على المجنون في الكلام على الصّبيّ‏.‏ ويرتفع حجر المجنون بالإفاقة من الجنون من غير احتياج إلى فكّ فتعتبر أقواله وتنفذ تصرّفاته ‏(‏ر‏:‏ جنون‏)‏‏.‏

الحجر على المعتوه

10 - اختلف الحنفيّة في تفسير المعتوه، وأحسن ما قيل فيه‏:‏ هو من كان قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التّدبير إلاّ أنّه لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجنون‏.‏ ولم يذكر غير الحنفيّة تفسيرا للعته في الاصطلاح‏.‏ والمعتوه عند الحنفيّة في تصرّفاته وفي رفع التّكليف عنه كالصّبيّ المميّز العاقل‏.‏ أمّا إذا أفاق فإنّه كالبالغ العاقل في تلك الحالة‏.‏ ولم نجد عند غير الحنفيّة تعرّضا لحكم تصرّفات المعتوه‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏عته‏)‏‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّ المجنون إذا كان له أدنى تمييز فهو كالصّبيّ المميّز في التّصرّفات الماليّة‏.‏ وذهب السّبكيّ والأذرعيّ إلى أنّ من زال عقله فمجنون وإلاّ فهو مكلّف‏.‏ ولم نجد عند المالكيّة والحنابلة تعرّضا للمسألة‏.‏

الحجر على السّفيه

أ - السّفه‏:‏

11 - السّفه لغة‏:‏ هو نقص في العقل، وأصله الخفّة، وسفه الحقّ جهله، وسفّهته تسفيها‏:‏ نسبته إلى السّفه، أو قلت له‏:‏ إنّه سفيه‏.‏ وهو سفيه، والأنثى سفيهة، والجمع سفهاء‏.‏ وأمّا اصطلاحا فقد اختلفت عبارات الفقهاء في تعريفه‏:‏ فذهب الحنفيّة إلى أنّ السّفه هو تبذير المال وتضييعه على خلاف مقتضى الشّرع أو العقل، كالتّبذير والإسراف في النّفقة، وأن يتصرّف تصرّفات لا لغرض، أو لغرض لا يعدّه العقلاء من أهل الدّيانة غرضا، كدفع المال إلى المغنّين واللّعّابين وشراء الحمام الطّيّار بثمن غال، والغبن في التّجارات من غير محمدة ‏(‏أو غرض صحيح‏)‏‏.‏ وأصل المسامحات في التّصرّفات والبرّ والإحسان مشروع إلاّ أنّ الإسراف حرام كالإسراف في الطّعام والشّراب، ولذا كان من السّفه عند الحنفيّة تبذير المال وتضييعه ولو في الخير كأن يصرفه كلّه في بناء المساجد ونحو ذلك‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ السّفه هو التّبذير ‏(‏أي‏:‏ صرف المال في غير ما يراد له شرعا‏)‏ بصرف المال في معصية كخمر وقمار، أو بصرفه في معاملة من بيع أو شراء بغبن فاحش ‏(‏خارج عن العادة‏)‏ بلا مصلحة تترتّب عليه بأن يكون ذلك شأنه من غير مبالاة، أو صرفه في شهوات نفسانيّة على خلاف عادة مثله في مأكله ومشربه وملبوسه ومركوبه ونحو ذلك‏.‏ أو بإتلافه هدرا كأن يطرحه على الأرض أو يرميه في بحر أو مرحاض، كما يقع لكثير من السّفهاء يطرحون الأطعمة والأشربة فيما ذكر ولا يتصدّقون بها‏.‏ وأمّا الشّافعيّة فقد ذهب الماورديّ إلى التّفرقة بين التّبذير والسّرف، فقال‏:‏ التّبذير‏:‏ الجهل بمواقع الحقوق، والسّرف‏:‏ الجهل بمقادير الحقوق‏.‏ وكلام الغزاليّ يقتضي ترادفهما‏.‏ وعلى كلّ حال فإنّ السّفيه عند الشّافعيّة هو الّذي يضيّع ماله باحتمال غبن فاحش في المعاملة ونحوها إذا كان جاهلا بها - أمّا إذا كان عالما بالمعاملة فأعطى أكثر من ثمنها فإنّ الزّائد صدقة خفيّة محمودة، أي إن كان التّعامل مع محتاج وإلاّ فهبة‏.‏ ومن السّفه عندهم أن يرمي ماله وإن كان قليلا في بحر أو نار أو نحو ذلك أو ينفق أمواله في محرّم‏.‏ والأصحّ عند الشّافعيّة أنّ صرف المال في الصّدقة ووجوه الخير، والمطاعم والملابس الّتي لا تليق بحاله ليس بتبذير‏.‏ أمّا في الأولى وهو الصّرف في الصّدقة ووجوه الخير فلأنّ له في الصّرف في الخير عوضا، وهو الثّواب، فإنّه لا سرف في الخير كما لا خير في السّرف‏.‏ وحقيقة السّرف‏:‏ ما لا يكسب حمدا في العاجل ولا أجرا في الآجل‏.‏ ومقابل الأصحّ في هذا النّوع أنّه يكون مبذّرا إن بلغ مفرطا في الإنفاق‏.‏ فإن عرض له ذلك بعد البلوغ مقتصدا فلا‏.‏ وأمّا في الثّانية وهو الصّرف في المطاعم والملابس فلأنّ المال يتّخذ لينتفع به ويلتذّ به، ومقابل الأصحّ في هذا النّوع يكون تبذيرا عادة‏.‏ وذهب الحنابلة إلى أنّ السّفيه هو المضيّع لماله المبذّر له‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ أكثر علماء الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشّام ومصر يرون الحجر على كلّ مضيّع لماله صغيرا كان أو كبيرا‏.‏

ب - حكم الحجر على السّفيه‏:‏

12 - ذهب جمهور الفقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد، وهو المفتى به عند الحنفيّة إلى أنّ المحجور عليه إذا فكّ عنه الحجر لرشده وبلوغه ودفع إليه ماله ثمّ عاد إلى السّفه أعيد عليه الحجر، وبهذا قال القاسم بن محمّد والأوزاعيّ وإسحاق وأبو عبيد‏.‏ واستدلّوا بالكتاب والسّنّة‏.‏ أمّا الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السّفهاء أموالكم الّتي جعل اللّه لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم، وقولوا لهم قولا معروفا‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏‏.‏ فقد نهانا اللّه تعالى عن الدّفع إليه ما دام سفيها، وأمرنا بالدّفع إن وجد منه الرّشد، إذ لا يجوز الدّفع إليه قبل وجوده، ولأنّ منع ماله لعلّة السّفه فيبقى المنع ما بقيت العلّة، صغيرا كان السّفيه أو كبيرا‏.‏ وأمّا السّنّة‏:‏ فقوله عليه الصلاة والسلام ‏{‏خذوا على يد سفهائكم‏}‏ وأورد ابن قدامة ما رواه عروة بن الزّبير أنّ عبد اللّه بن جعفر ابتاع بيعا، فقال عليّ رضي الله عنه‏:‏ لآتينّ عثمان ليحجر عليك، فأتى عبد اللّه بن جعفر الزّبير، فقال‏:‏ قد ابتعت بيعا وإنّ عليّا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر عليّ‏.‏ فقال الزّبير‏:‏ أنا شريكك في البيع‏.‏ فأتى عليّ عثمان، فقال‏:‏ إنّ ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا فاحجر عليه‏.‏ فقال الزّبير‏:‏ أنا شريكه في البيع، فقال عثمان‏:‏ كيف أحجر على رجل شريكه الزّبير ‏؟‏ ثمّ قال ابن قدامة‏:‏ وهذه قصّة يشتهر مثلها ولم يخالفها أحد في عصرهم فتكون إجماعا حينئذ، واستدلّوا أيضا بأنّ هذا سفيه فيحجر عليه كما لو بلغ سفيها فإنّ العلّة الّتي اقتضت الحجر عليه إذا بلغ سفيها سفهه، وهو موجود، ولأنّ السّفه لو قارن البلوغ منع دفع ماله إليه، فإذا حدث أوجب انتزاع المال كالجنون، وفي الحجر عليه صيانة لماله وورثته من بعده‏.‏ وأمّا أبو حنيفة فقد ذهب إلى أنّه لا يبتدأ الحجر على بالغ عاقل بسبب السّفه لما سبق‏.‏

الحجر على السّفيه بحكم الحاكم

13 - ذهب جمهور الفقهاء القائلين بالحجر على السّفيه إلى أنّ الحجر عليه لا بدّ له من حكم حاكم، كما أنّ فكّ الحجر عنه لا بدّ له من حكم حاكم أيضا، لأنّ الحجر إذا كان بحكم الحاكم لا يزول إلاّ به، ولأنّ الرّشد يحتاج إلى تأمّل واجتهاد في معرفته وزوال تبذيره فكان كابتداء الحجر عليه‏.‏ وذهب محمّد بن الحسن من الحنفيّة وابن القاسم من المالكيّة إلى أنّ السّفيه لا يحتاج في الحجر عليه إلى قضاء القاضي لأنّ فساده في ماله يحجره وصلاحه فيه يطلقه‏.‏ وإنّ علّة الحجر عليه السّفه وقد تحقّق في الحال، فيترتّب عليه موجبه بغير قضاء، كالصّبا والجنون‏.‏ وتظهر ثمرة الخلاف فيما لو باع السّفيه قبل قضاء القاضي فإنّ بيعه جائز عند الجمهور ولا يجوز عند محمّد وابن القاسم‏.‏

تصرّفات السّفيه

14 - اتّفق الفقهاء على أنّ تصرّف السّفيه في ماله حكمه حكم تصرّف الصّبيّ المميّز، واختلفوا في التّصرّفات غير الماليّة‏.‏ وتفصيل ذلك كلّه في مصطلح ‏(‏سفه، وولاية‏)‏‏.‏

الحجر على ذي الغفلة

15 - ذو الغفلة هو من يغبن في البيوع لسلامة قلبه ولا يهتدي إلى التّصرّفات الرّابحة‏.‏ ويختلف عن السّفيه بأنّ السّفيه مفسد لماله ومتابع لهواه، أمّا ذو الغفلة فإنّه ليس بمفسد لماله ولا يقصد الفساد‏.‏ ولم نجد من الفقهاء من صرّح بأنّ ذا الغفلة يحجر عليه سوى الصّاحبين من الحنفيّة، وقد أدرج الجمهور هذا الوصف في السّفه والتّبذير‏.‏ فذهب وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة إلى أنّ الحجر يثبت على ذي الغفلة كالسّفيه أي‏:‏ من حين قضاء القاضي عند أبي يوسف، ومن حين ظهور أمارات الغفلة عند محمّد، وعلى هذا فيزول الحجر عنه بقضاء القاضي عند أبي يوسف، وبزوال الغفلة عند محمّد، وقد شرع الحجر عليه صيانة لماله ونظرا له، فقد ‏{‏طلب أهل حبّان بن منقذ من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يحجر عليه، فأقرّهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكر عليهم‏}‏، فلو لم يكن الحجر مشروعا على ذي الغفلة لأنكر عليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم طلبهم‏.‏ وذلك فيما روى أنس بن مالك ‏{‏أنّ رجلا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وفي عقدته ضعف، فأتى أهله نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا نبيّ اللّه‏:‏ احجر على فلان، فإنّه يبتاع وفي عقدته ضعف، فدعاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع، فقال‏:‏ يا نبيّ اللّه، إنّي لا أصبر عن البيع، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إن كنت غير تارك البيع فقل‏:‏ هاء وهاء ولا خلابة‏}‏‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يحجر على الغافل بسبب غفلته، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يجبهم إلى طلبهم وإنّما قال له‏:‏ قل‏:‏ لا خلابة ولي الخيار‏.‏ ولو كان الحجر مشروعا لأجابهم إليه‏.‏

الحجر على المدين المفلس

16 - سبق في مصطلح إفلاس الكلام عن الحجر على المدين المفلس ولو كان غائبا - في الجملة - ما يغني عن إعادته هنا، ابتداء من الفقرة ‏(‏7‏)‏ وما بعدها‏.‏ والحجر على المدين هو حجر له عن التّصرّف في أمواله دون ذمّته‏.‏ انظر مصطلح ‏(‏إفلاس‏)‏ ‏(‏وغيبة‏)‏‏.‏

الحجر على الفاسق

17 - ذهب جمهور الفقهاء ‏(‏الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة‏)‏ إلى أنّ الفاسق إذا لم يكن سفيها مبذّرا لماله لا يحجر عليه، لأنّ مجرّد الفسق فقط لا يوجب الحجر، لأنّ الأوّلين لم يحجروا على الفسقة، ولأنّ الفسق لا يتحقّق به إتلاف المال ولا عدم إتلافه ‏(‏أي لا تلازم بين الفسق وإتلاف المال‏)‏‏.‏ وذهب الشّافعيّة في مقابل الأصحّ إلى أنّ الفاسق يحجر عليه كالاستدامة بأن بلغ فاسقا‏.‏ والفاسق من يفعل محرّما يبطل العدالة من كبيرة أو إصرار على صغيرة، ولم تغلب طاعاته على معاصيه، واحترز بالمحرّم عمّا يمنع قبول الشّهادة لإخلاله بالمروءة، كالأكل في السّوق، فإنّه لا يمنع الرّشد لأنّ الإخلال بالمروءة المختلف فيه ليس بحرام على المشهور‏.‏

الحجر على تبرّعات الزّوجة

18 - المرأة لها ذمّة ماليّة مستقلّة، ولها أن تتبرّع من مالها متى شاءت ما دامت رشيدة عند جمهور الفقهاء‏.‏ واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ وهو ظاهر في فكّ الحجر عنهم ‏(‏ذكورا كانوا أو إناثا‏)‏ وإطلاقهم في التّصرّف‏.‏ وقد ثبت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏يا معشر النّساء تصدّقن ولو من حليّكنّ‏}‏ وأنّهنّ تصدّقن فقبل صدقتهنّ ولم يسأل ولم يستفصل، ‏{‏وأتته زينب امرأة عبد اللّه وامرأة أخرى اسمها زينب فسألته عن الصّدقة هل يجزيهنّ أن يتصدّقن على أزواجهنّ وأيتام لهنّ ‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏}‏ ولم يذكر لهنّ هذا الشّرط، ولأنّ من وجب دفع ماله إليه لرشد جاز له التّصرّف فيه من غير إذن كالغلام، ولأنّ المرأة من أهل التّصرّف ولا حقّ لزوجها في مالها فلم يملك الحجر عليها في التّصرّف بجميعه كأختها‏.‏

19 - وذهب مالك - وهو رواية عن أحمد - إلى أنّه يحجر على المرأة الحرّة الرّشيدة لصالح زوجها في تبرّع زاد على ثلث مالها إلاّ بإذن زوجها البالغ الرّشيد أو وليّه إذا كان سفيها‏.‏ فقد حكي عن أحمد في امرأة حلفت أن تعتق جارية ليس لها غيرها فحنثت ولها زوج فردّ ذلك عليها زوجها‏.‏ أنّه قال‏:‏ له أن يردّ عليها وليس لها عتق لما روي‏:‏ أنّ ‏{‏امرأة كعب بن مالك أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بحليّ لها فقالت‏:‏ إنّي تصدّقت بهذا، فقال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يجوز للمرأة عطيّة حتّى يأذن زوجها‏.‏ فهل استأذنت كعبا ‏؟‏ فقالت‏:‏ نعم‏.‏ فبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى كعب فقال‏:‏ هل أذنت لها أن تتصدّق بحليّها ‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقبله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏}‏‏.‏ وروي أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏لا يجوز لامرأة عطيّة إلاّ بإذن زوجها‏}‏ ولأنّ حقّ الزّوج متعلّق بمالها‏.‏ فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال ‏{‏تنكح المرأة لأربع‏:‏ لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها‏}‏ والعادة أنّ الزّوج يزيد في مهرها من أجل مالها ويتبسّط فيه وينتفع به‏.‏ فإذا أعسر بالنّفقة أنظرته، فجرى ذلك مجرى حقوق الورثة المتعلّقة بمال المريض، ولأنّ الغرض من مالها التّجمّل للزّوج‏.‏ والرّجعيّة كالزّوجة لأنّ حقّ الزّوج باق فيمن طلقت طلاقا رجعيّا‏.‏ ولا يحجر على المرأة لأبيها ونحوه، إذ الحجر عليها للزّوج فقط دون غيره‏.‏ ولا يحجر على المرأة إذا كان إعطاؤها المال عن الواجب عليها من نفقة أبويها، كما لو تبرّعت بالثّلث فأقلّ‏.‏ قال المالكيّة‏:‏ وفي جواز إقراضها مالا زائدا عن الثّلث بغير إذن زوجها قولان‏:‏ وجه القول بالجواز أنّها تأخذ عوضه وهو ردّ السّلف، فكان كبيعها‏.‏ ووجه القول بالمنع أنّ القرض يشبه الهبة من حيث إنّه من قبيل المعروف، ولأنّها تخرج لمطالبتها بما أقرضته، وهو ضرر على الزّوج‏.‏ وأمّا دفعها المال قراضا لعامل فليس فيه القولان لأنّه من التّجارة‏.‏ هذا وإنّ تبرّعها بزائد على ثلثها جائز حتّى يردّ الزّوج جميعه أو ما شاء منه على المشهور من مذهب مالك، وقيل‏:‏ مردود حتّى يجيزه الزّوج‏.‏ وللزّوج ردّ الجميع إن تبرّعت بزائد عن الثّلث، ولو كان الزّائد يسيرا، معاملة لها بنقيض قصدها، أو لأنّها كمن جمع بين حلال وحرام‏.‏ وللزّوج إمضاء الجميع، وله ردّ الزّائد فقط‏.‏ وإذا تبرّعت الزّوجة بثلث مالها فليس لها أن تتبرّع مرّة أخرى بثلث آخر، إلاّ أن يبعد ما بينهما بعام على قول ابن سهل من المالكيّة، قيل‏:‏ وهو الرّاجح، أو بستّة أشهر على قول أصبغ، ونحوه لابن عرفة‏.‏

الحجر على المريض مرض الموت

20 - مرض الموت هو المرض الّذي يخاف فيه الموت في الأكثر الّذي يعجز المريض عن رؤية مصالحه الخارجة عن داره إن كان من الذّكور، ويعجزه عن رؤية المصالح الدّاخلة في داره إن كان من الإناث، ويموت على تلك الحال قبل مرور سنة صاحب فراش كان أو لم يكن‏.‏ وعرّفه المالكيّة بأنّه المرض المخوف، وهو الّذي حكم الطّبّ بكثرة الموت به أي بسببه أو منه ولو لم يغلب، فالمدار على كثرة الموت من ذلك المرض بحيث يكون الموت منه شهيرا لا يتعجّب منه، ولا يلزم من كثرة الموت منه غلبة الموت به‏.‏ وقد اتّفق الفقهاء على أنّ المريض مرض الموت تحجر عليه تبرّعاته فيما زاد عن ثلث تركته لحقّ ورثته وذلك حيث لا دين، وإذا تبرّع بما زاد عن الثّلث كان له حكم الوصيّة إذا مات‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ المريض مرض الموت يمنع ممّا زاد على قدر الحاجة من الأكل والشّرب والكسوة والتّداوي‏.‏ وألحق المالكيّة والحنابلة بالمريض مرض الموت من كان في معناه كالمقاتل في الصّفّ والمحبوس للقتل ونحوهما‏.‏ وللتّفصيل انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏مرض، موت، وصيّة‏)‏‏.‏

الحجر على الرّاهن

21 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الرّاهن يحجر عليه التّصرّف في العين المرهونة بعد لزوم الرّهن ضمانا لحقّ المرتهن‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏رهن‏)‏‏.‏

الحجر للمصلحة العامّة

22 - ذهب الحنفيّة إلى فرض الحجر على ثلاثة وهم‏:‏ المفتي الماجن، والطّبيب الجاهل، والمكاري المفلس‏.‏

أ - المفتي الماجن‏:‏ هو الّذي يعلّم النّاس الحيل الباطلة، كتعليم الزّوجة الرّدّة لتبين من زوجها، أو تعليم الحيل بقصد إسقاط الزّكاة، ومثله الّذي يفتي عن جهل‏.‏

ب - الطّبيب الجاهل‏:‏ هو الّذي يسقي المرضى دواء مهلكا، وإذا قوي عليهم المرض لا يقدر على إزالة ضرره‏.‏

ج - المكاري المفلس‏:‏ هو الّذي يكري إبلا وليس له إبل ولا مال ليشتريها به، وإذا جاء أوان الخروج يخفي نفسه‏.‏ وليس المراد بالحجر على هؤلاء الثّلاثة حقيقة الحجر وهو المنع الشّرعيّ الّذي يمنع نفوذ التّصرّف، لأنّ المفتي لو أفتى بعد الحجر وأصاب جاز، وكذا الطّبيب لو باع الأدوية نفذ، وإنّما المقصود المنع الحسّيّ، لأنّ الأوّل مفسد للأديان، والثّاني مفسد للأبدان، والثّالث مفسد للأموال‏.‏ فمنع هؤلاء المفسدين دفع ضرر لاحق بالخاصّ والعامّ، وهو من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر‏.‏

الحجر على المرتدّ

23 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المرتدّ يحجر عليه لحقّ المسلمين، لأنّ تركته فيء فيمنع من التّصرّف في ماله لئلاّ يفوّته على المسلمين‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏ردّة‏)‏‏.‏

حجر

التّعريف

1 - الحجر بالكسر يطلق في اللّغة على معان‏:‏ منها‏:‏ حضن الإنسان، وهو ما دون إبطه إلى الكشح، أو الصّدر والعضدان وما بينهما، أو ما بين يدي الإنسان من ثوبه‏.‏ ويقال لمن في حمايته شخص إنّه في حجره بكسر الحاء وفتحها‏:‏ أي كنفه‏.‏ ومنها‏:‏ العقل وفي هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل في ذلك قسم لذي حجر‏}‏ ومنها‏:‏ الحرام كما في قوله تعالى‏:‏ حكاية عن المشركين‏:‏ ‏{‏وقالوا‏:‏ هذه أنعام، وحرث حجر لا يطعمها إلاّ من نشاء بزعمهم‏}‏‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ هو القسم الخارج عن جدار الكعبة، وهو محوط مدوّر على صورة نصف دائرة ويسمّى ‏(‏حجر إسماعيل‏)‏ قال ابن إسحاق‏:‏ حمل إبراهيم عليه السلام الحجر إلى جنب البيت عريشا من أراك تقتحمه العنز، وكان زربا لغنم إسماعيل‏.‏ ويسمّى الحطيم وقيل‏:‏ الحطيم هو جدار الحجر، وقيل ما بين الرّكن وزمزم والمقام‏.‏ الحكم التّكليفيّ‏:‏

2 - جمهور الفقهاء على أنّ ستّة أذرع نبويّة من الحجر من البيت‏.‏ ويدلّ لذلك ما في الصّحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت‏:‏ ‏{‏قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا عائشة لولا أنّ قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيّا وبابا غربيّا، وزدت فيها ستّة أذرع من الحجر فإنّ قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبة‏}‏، وفي رواية ‏{‏فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه، فهلمّي لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع‏}‏‏.‏ وفي مسلم عن عطاء فذكر شيئا من حريق الكعبة وعمارة بن الزّبير لها ثمّ قال‏:‏ إنّي سمعت عائشة تقول‏:‏ ‏{‏إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لولا أنّ قومك حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النّفقة ما يقوى على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع‏}‏‏.‏ قال عطاء‏:‏ وزاد فيه خمسة أذرع من الحجر حتّى أبدى أساسها ونظر إليه النّاس فبنى عليه البناء انتهى‏.‏ واختلفوا في كون جميعه من البيت‏.‏ فقال الحنفيّة والحنابلة، وهو قول عند الشّافعيّة‏:‏ إنّ جميع الحجر من البيت‏.‏ واستدلّوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏{‏سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الحجر فقال‏:‏ هو من البيت‏}‏‏.‏ وعنها رضي الله عنها ‏{‏قالت‏:‏ كنت أحبّ أن أدخل البيت فأصلّي فيه، فأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيدي، فأدخلني في الحجر فقال‏:‏ صلّي في الحجر إذا أردت دخول البيت، فإنّما هو قطعة من البيت، فإنّ قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت‏}‏‏.‏

استقبال الحجر في الصّلاة

3 - اختلف الفقهاء في جواز استقبال الحجر في الصّلاة‏:‏ فقال الحنابلة وهو قول عند المالكيّة‏:‏ يجوز استقبال الحجر في الصّلاة إذا كان المصلّي خارج الحجر سواء، أكانت الصّلاة فرضا أم نفلا‏:‏ لحديث‏:‏ ‏{‏الحجر من البيت‏}‏‏.‏ أمّا إذا كان المصلّي في داخله فلا يصحّ الفرض، كصلاته في داخل البيت‏.‏ وقال الحنفيّة، والشّافعيّة‏:‏ لا تصحّ الصّلاة باستقبال الحجر، فرضا كانت أم نفلا، لأنّ كونه من البيت مظنون لثبوته بخبر الآحاد، ووجوب التّوجّه إلى البيت ثبت بنصّ الكتاب وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره‏}‏ ولا يجوز ترك العمل بنصّ الكتاب بخبر الواحد‏.‏ وإلى هذا ذهب عياض والقرافيّ وابن جماعة من المالكيّة، وقالوا‏:‏ إنّه مذهب المالكيّة‏.‏ والتّفصيل في ‏(‏طواف، واستقبال القبلة‏)‏‏.‏

الطّواف من داخل الحجر

4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يصحّ الطّواف من داخل الحجر، واشترطوا لصحّة الطّواف أن يكون من خارج الحجر‏.‏ وقال من يرى أنّ جميع الحجر من البيت أنّ من طاف داخل الحجر لم يطف جميع البيت، وهو المأمور بقول الحقّ تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وليطّوّفوا بالبيت العتيق‏}‏‏.‏ وقد ثبت أنّ الحجر من البيت لحديث عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏{‏سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الحجر، فقال‏:‏ هو من البيت‏}‏‏.‏ ولأنّ ‏{‏النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ طاف خارج الحجر، وقد قال‏:‏ لتأخذوا عنّي مناسككم‏}‏ وقال بعض المالكيّة‏:‏ يجب أن يكون طوافه خارج السّتّة الأذرع الّتي هي من البيت‏.‏ وعند هؤلاء لا يجب أن يكون خارج جميعه وهو قول لبعض الشّافعيّة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ طواف‏)‏‏.‏

الحجر الأسود

التّعريف

1 - الحجر الأسود كتلة من الحجر ضارب إلى السّواد شبه بيضاويّ في شكله، يقع في أصل بناء الكعبة في الرّكن الجنوبيّ الشّرقيّ منها، يستلمه الطّائفون عند طوافهم

الحكم الإجمالي

2 - يتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ استلام الحجر الأسود باليد وتقبيله للطّائف لمن يقدر، لما روي ‏{‏أنّ رجلا سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن استلام الحجر فقال‏:‏ رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبّله‏}‏‏.‏ ولما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ قبّل عمر بن الخطّاب الحجر ثمّ قال‏:‏ أما واللّه لقد علمت أنّك حجر ولولا أنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك‏.‏ وروي أنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كانوا يستلمون الحجر ثمّ يقبّلونه، فيلتزم فعلهم، لأنّه ممّا لا يكون بالرّأي‏.‏ ويستحبّ أن يستفتح الاستلام بالتّكبير، لما روى ابن عبّاس رضي الله عنهما قال‏:‏ ‏{‏طاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير كلّما أتى الرّكن أشار إليه بشيء كان عنده وكبّر‏}‏‏.‏ ويرفع يديه عند التّكبير، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ترفع الأيدي في سبعة مواطن وذكر من جملتها الحجر‏}‏،، وهذا عند الجمهور‏.‏ وأمّا عند المالكيّة فلا يرفع يديه عند التّكبير‏.‏ ويستحبّ استلام الحجر الأسود في كلّ طواف، لأنّ ابن عمر رضي الله عنهما، قال‏:‏ ‏{‏كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الرّكن اليمانيّ والحجر في كلّ طوفة‏}‏ قال نافع‏:‏ وكان ابن عمر يفعله‏.‏ وإن لم يتمكّن من تقبيل الحجر استلمه بيده وقبّل يده، وهذا عند المالكيّة والحنابلة حيث قالوا‏:‏ إنّ الاستلام باليد يكون بعد العجز عن الاستلام بالفم‏.‏ لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استلمه وقبّل يده‏}‏ وفعله أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وتبعهم أهل العلم على ذلك‏.‏ وأمّا الحنفيّة والشّافعيّة فقالوا‏:‏ إنّ الاستلام باليد كالاستلام بالفم‏.‏ ثمّ إن عجز عن الاستلام يمسّ الحجر بشيء في يده كالعصا مثلا ثمّ يقبّله، لما روي عن أبي الطّفيل، قال‏:‏ ‏{‏رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الرّكن بمحجن معه ويقبّل المحجن‏}‏‏.‏ وإن لم يستطع أن يستلم الحجر بيده، أو يمسّه بشيء فإنّه يستقبله من بعد ويشير إليه بباطن كفّه كأنّه واضعها عليه، ثمّ يقبّله ويهلّل ويكبّر، لما روى البخاريّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال‏:‏ ‏{‏طاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم على بعير كلّما أتى الرّكن أشار إليه وكبّر‏}‏‏.‏ ويسنّ أن يقبّل الحجر من غير صوت يظهر للقبلة، لحديث ابن عمر ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استقبل الحجر ثمّ وضع شفتيه عليه يبكي طويلا، ثمّ التفت فإذا هو بعمر بن الخطّاب يبكي، فقال‏:‏ يا عمر هاهنا تسكب العبرات‏}‏‏.‏ قال الحطّاب‏:‏ وفي الصّوت قولان‏:‏ قال الشّيخ زرّوق في شرح الإرشاد‏:‏ وفي كراهة التّصويت بالتّقبيل قولان‏:‏ ورجّح غير واحد الجواز، وذكر ابن رشد أنّ الشّيخ المحبّ الطّبريّ جاءه مستفت يسأله عن تقبيل الحجر أبصوت أو دونه ‏؟‏ فذكر له التّقبيل من غير تصويت‏.‏ ولا يستحبّ للنّساء استلام الحجر ولا تقبيله إلاّ عند خلوّ المطاف في اللّيل أو غيره‏.‏

البداءة في الطّواف من الحجر الأسود

3 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة إلى أنّه يتعيّن البداءة في الطّواف من الحجر الأسود ليحسب الشّوط لما روي ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم افتتح الطّواف من يمين الحجر لا من يساره‏}‏، وذلك تعليم منه صلى الله عليه وسلم مناسك الحجّ، وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏خذوا عنّي مناسككم‏}‏ فتجب البداءة بما بدأ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولو افتتح الطّواف من غير الحجر لم يعتدّ بذلك الشّوط إلاّ أن يصير إلى الحجر فيبتدئ منه الطّواف‏.‏ وأمّا عند الحنفيّة في ظاهر الرّواية ومالك أنّ البداءة في الطّواف من الحجر الأسود سنّة، ولو بدأ الطّواف من مكان غير الحجر الأسود بدون عذر أجزأه مع الكراهة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليطّوّفوا بالبيت العتيق‏}‏ مطلقا عن شرط الابتداء بالحجر الأسود‏.‏

استلام الحجر وتقبيله في الزّحام

4 - إذا كان في الطّواف زحام وخشي الطّائف إيذاء النّاس فالأولى أن يترك تقبيل الحجر الأسود واستلامه، لأنّ استلام الحجر الأسود سنّة وترك إيذاء النّاس واجب فلا يهمل الواجب لأجل السّنّة، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ يا عمر إنّك رجل قويّ لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضّعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلاّ فاستقبله وهلّل وكبّر‏}‏‏.‏

السّجود على الحجر الأسود

5 - حكى ابن المنذر عن عمر بن الخطّاب وابن عبّاس وطاوس والشّافعيّ وأحمد أنّه يستحبّ بعد تقبيل الحجر الأسود السّجود عليه بالجبهة، وقد أخرج الشّافعيّ والبيهقيّ عن ابن عبّاس موقوفا ‏"‏ أنّه كان يقبّل الحجر الأسود ويسجد عليه‏.‏ وكره مالك السّجود وتمريغ الوجه عليه، ونقل الكاسانيّ عن مالك أنّه بدعة، ونقل ابن الهمام عن قوام الدّين الكاكيّ قال‏:‏ وعندنا الأولى أن لا يسجد لعدم الرّواية من المشاهير‏.‏

الدّعاء عند استلام الحجر

6 - ذهب أكثر الفقهاء إلى أنّه يستحبّ أن يقول الطّائف عند استلام الحجر، أو استقباله بوجهه إذا شقّ عليه استلامه‏:‏ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، واللّه أكبر، اللّهمّ إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتّباعا لسنّة نبيّك محمّد صلى الله عليه وسلم‏.‏ لما روى جابر رضي الله عنه ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استلم الرّكن الّذي فيه الحجر وكبّر ثمّ قال‏:‏ اللّهمّ وفاء بعهدك وتصديقا بكتابك‏}‏‏.‏ وزاد ابن الهمام‏:‏ لا إله إلاّ اللّه، اللّه أكبر، اللّهمّ إليك بسطت يدي، وفيما عندك عظمت رغبتي فاقبل دعوتي وأقلني عثرتي، وارحم تضرّعي، وجد لي بمغفرتك، وأعذني من مضلّات الفتن‏.‏ وذكر الكاسانيّ في البدائع‏:‏ ولم يذكر عن أصحابنا فيه دعاء بعينه، لأنّ الدّعوات لا تحصى‏.‏

حداد

انظر‏:‏ إثبات‏.‏

حدث

التّعريف

1 - الحدث في اللّغة من الحدوث‏:‏ وهو الوقوع والتّجدّد وكون الشّيء بعد أن لم يكن، ومنه يقال‏:‏ حدث به عيب إذا تجدّد وكان معدوما قبل ذلك‏.‏ والحدث اسم من أحدث الإنسان إحداثا‏:‏ بمعنى الحالة النّاقضة للوضوء‏.‏ ويأتي بمعنى الأمر الحادث المنكر الّذي ليس بمعتاد ولا معروف، ومنه محدثات الأمور‏.‏ وفي الاصطلاح يطلق ويراد به أمور‏:‏

أ - الوصف الشّرعيّ ‏(‏أو الحكميّ‏)‏ الّذي يحلّ في الأعضاء ويزيل الطّهارة ويمنع من صحّة الصّلاة ونحوها، وهذا الوصف يكون قائما بأعضاء الوضوء فقط في الحدث الأصغر، وبجميع البدن في الحدث الأكبر، وهو الغالب في إطلاقهم‏.‏ كما سيأتي تفصيله‏.‏ وقد ورد هذا التّعريف في كتب فقهاء المذاهب الأربعة باختلاف بسيط في العبارة‏.‏ ب - الأسباب الّتي توجب الوضوء أو الغسل، ولهذا نجد الحنفيّة يعرّفونه بأنّه‏:‏ خروج النّجس من الآدميّ سواء أكان من السّبيلين أم من غيرهما معتادا كان أم غير معتاد‏.‏ والمالكيّة يعرّفونه بأنّه الخارج المعتاد من المخرج المعتاد في حال الصّحّة، والحنابلة يعرّفونه بما أوجب وضوءا أو غسلا، كما وضع بعض الشّافعيّة بابا للأحداث ذكروا فيها أسباب نقض الوضوء‏.‏

ج - ويطلق الحدث على المنع المترتّب على المعنيين المذكورين د - وزاد المالكيّة إطلاقه على خروج الماء في المعتاد كما قال الدّسوقيّ‏.‏ والمراد هنا من هذه الإطلاقات هو الأوّل، أمّا المنع فإنّه حكم الحدث، وهو الحرمة وليس نفس الحدث، كما صرّح به الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - ‏(‏الطّهارة‏)‏‏:‏

2 - الطّهارة في اللّغة النّزاهة والنّظافة والخلوص من الأدناس حسّيّة كانت كالأنجاس، أم معنويّة كالعيوب من الحقد والحسد ونحوهما‏.‏ وفي الشّرع رفع ما يمنع الصّلاة وما في معناها من حدث أو نجاسة بالماء أو رفع حكمه بالتّراب‏.‏ فالطّهارة ضدّ الحدث ‏(‏ر‏:‏ طهارة‏)‏‏.‏

ب - ‏(‏الخبث‏)‏‏:‏

3 - الخبث بفتحتين النّجس، وإذا ذكر مع الحدث يراد منه النّجاسة الحقيقيّة أي العين المستقذرة شرعا، ومن هنا عرّفوا الطّهارة بأنّها النّظافة من حدث أو خبث‏.‏ والخبث بسكون الباء في اللّغة مصدر خبث الشّيء خبثا ضدّ طاب، يقال‏:‏ شيء خبيث أي نجس أو كريه الطّعم، والخبث كذلك الشّرّ والوصف منه الخبث وجمعه الخبث، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث‏}‏ أي ذكران الشّياطين وإناثهم، واستعمل في كلّ حرام ج - النّجس‏:‏

4 - النّجس بفتحتين مصدر نجس الشّيء نجسا، ثمّ استعمل اسما لكلّ مستقذر، والنّجس بكسر الجيم ضدّ الطّاهر، والنّجاسة ضدّ الطّهارة، فالنّجس لغة يعمّ الحقيقيّ والحكميّ، وعرفا يختصّ بالأوّل كالخبث‏.‏ وإذا أحدث الإنسان ونقض وضوءه يقال له‏:‏ محدث، ولا يقال له نجس في عرف الشّارع‏.‏ أمّا الخبث فيخصّ النّجاسة الحقيقيّة كما أنّ الحدث يخصّ الحكميّة، والطّهارة ارتفاع كلّ واحد منهما‏.‏

أقسام الحدث

5 - سبق في تعريف الحدث أنّه بالإطلاق الأوّل وصف يحلّ بالأعضاء ويمنع من صحّة الصّلاة ونحوها‏.‏ فهذا الوصف إن كان قائما في جميع أعضاء البدن وأوجب غسلا يسمّى حدثا أكبر، وإذا كان قائما بأعضاء الوضوء فقط وأوجب غسل تلك الأعضاء فقط يسمّى حدثا أصغر‏.‏

والحدث بالإطلاق الثّاني أي الأسباب الّتي توجب الوضوء أو الغسل كذلك نوعان‏:‏

حدث حقيقيّ، وحدث حكميّ‏.‏

والحدث الحكميّ‏:‏ فهو نوعان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يوجد أمر يكون سببا لخروج النّجس الحقيقيّ غالبا فيقام السّبب مكان المسبّب احتياطا، والثّاني‏:‏ أن لا يوجد شيء من ذلك لكنّه جعل حدثا شرعا تعبّدا محضا‏.‏ وهذا التّقسيم صرّح به الحنفيّة وتدلّ عليه تعليلات غيرهم‏.‏

أولا‏:‏ الحدث الحقيقي

أسباب الحدث

أوّلا - خروج شيء من أحد السّبيلين‏:‏

6 - قال الحنفيّة‏:‏ ينتقض الوضوء بخروج النّجس من الآدميّ الحيّ من السّبيلين ‏(‏الدّبر والذّكر أو فرج المرأة‏)‏ معتادا كان كالبول والغائط والمنيّ والمذي والودّيّ ودم الحيض والنّفاس، أم غير معتاد كدم الاستحاضة‏.‏ أو من غير السّبيلين كالجرح والقرح والأنف والفم سواء كان الخارج دما أو قيحا أو قيئا‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ ينتقض الوضوء بالخارج المعتاد من المخرج المعتاد، لا حصى ودود ولو ببلّة، وهذا يشمل البول والغائط والمذي والمنيّ والودّيّ والرّيح، سواء أكان خروجه في حال الصّحّة باختيار، أم بغير اختيار، كسلس فارق أكثر الزّمن، أي ارتفع عن الشّخص، زمانا يزيد على النّصف‏.‏ فإن لازمه كلّ الزّمن أو أكثره أو نصفه فلا نقض، ويشمل الحدث عندهم الخارج من ثقبة تحت المعدة إن انسدّ السّبيلان‏.‏ وعلى ذلك فالخارج غير المعتاد، والدّود، والحصى، والدّم، والقيح، والقيء ونحوها لا يعتبر حدثا ولو كان من المخرج المعتاد‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ ينتقض الوضوء بخروج شيء من قبله أو دبره عينا كان أو ريحا، طاهرا أو نجسا، جافّا أو رطبا، معتادا كبول أو نادرا كدم، قليلا أو كثيرا، طوعا أو كرها‏.‏ إلاّ المنيّ فليس خروجه ناقضا قالوا‏:‏ لأنّه أوجب أعظم الأمرين وهو الغسل فلا يوجب أدونهما وهو الوضوء بعمومه، وكذلك إذا انسدّ مخرجه وانفتح تحت معدته فخرج المعتاد‏.‏ وقالا الحنابلة‏:‏ النّاقض للوضوء هو الخارج من السّبيلين قليلا كان أو كثيرا، نادرا كان كالدّود والدّم والحصى، أو معتادا كالبول والغائط والودي والمذي والرّيح، طاهرا أو نجسا، وكذلك خروج النّجاسات من بقيّة البدن، فإن كانت غائطا أو بولا نقض ولو قليلا من تحت المعدة أو فوقها، سواء أكان السّبيلان مفتوحين أم مسدودين‏.‏ وإن كانت النّجاسات الخارجة من غير السّبيلين غير الغائط والبول كالقيء والدّم والقيح، ودون الجراح لم ينقض إلاّ كثيرها‏.‏ وممّا سبق يظهر أنّ أسباب الحدث الحقيقيّ بعضها متّفق عليه وبعضها مختلف فيه‏:‏

أسباب الحدث المتّفق عليها

7 - اتّفق الفقهاء على أنّ الخارج المعتاد من السّبيلين كالبول والغائط والمنيّ والمذي والودي والرّيح، وأيضا دم الحيض والنّفاس يعتبر حدثا حقيقيّا قليلا كان الخارج أو كثيرا، والدّليل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو جاء أحد منكم من الغائط‏}‏ فهو كناية عن الحدث من بول أو غائط ونحوهما‏.‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا، فلا يخرجنّ من المسجد حتّى يسمع صوتا أو يجد ريحا‏}‏‏.‏ وهذه الأسباب بعضها حدث أكبر فيوجب الغسل كخروج المنيّ، والحيض والنّفاس، وبعضها حدث أصغر يوجب الوضوء فقط كالبول والغائط والمذي والودي والرّيح وسيأتي بيانه‏.‏

الأسباب المختلف فيها

أ - ما يخرج من السّبيلين نادرا‏:‏

8 - ما يخرج من السّبيلين نادرا كالدّود والحصى والشّعر وقطعة اللّحم ونحوها تعتبر أحداثا تنقض الوضوء عند جمهور الفقهاء‏:‏ ‏(‏الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏، وهو قول ابن عبد الحكم من المالكيّة‏.‏ وبه قال الثّوريّ وإسحاق وعطاء والحسن، لأنّها خارجة من السّبيلين فأشبهت المذي، ولأنّها لا تخلو عن بلّة تتعلّق بها، وقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم المستحاضة بالوضوء لكلّ صلاة، ودمها خارج غير معتاد‏.‏ وذهب المالكيّة في المشهور عندهم إلى أنّ الخارج غير المعتاد من السّبيلين كحصى تولّد بالبطن ودود لا يعتبر حدثا ولو ببلّة من بول أو غائط غير متفاحش بحيث ينسب الخروج للحصى والدّود لا للبول والغائط‏.‏ والقول الثّاني عندهم‏:‏ أنّه لا وضوء عليه إلاّ أن تخرج الدّودة والحصى غير نقيّة‏.‏

9- واختلفوا في الرّيح الخارجة من الذّكر أو قبل المرأة‏:‏ فقال الحنفيّة في الأصحّ والمالكيّة وهو رواية عند الحنابلة‏:‏ لا تعتبر حدثا، ولا ينتقض بها الوضوء، لأنّها اختلاج وليس في الحقيقة ريحا منبعثة عن محلّ النّجاسة، وهذا في غير المفضاة، فإن كانت من المفضاة فصرّح الحنفيّة أنّه يندب لها الوضوء، وقيل‏:‏ يجب، وقيل‏:‏ لو منتنة، لأنّ نتنها دليل خروجها من الدّبر‏.‏ وقال الشّافعيّة وهو رواية أخرى عند الحنابلة‏:‏ إنّ الخارجة من الذّكر أو قبل المرأة حدث يوجب الوضوء، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا وضوء إلاّ من صوت أو ريح‏}‏‏.‏

ب - ما يخرج من غير السّبيلين‏:‏

10 - الخارج من غير السّبيلين إذا لم يكن نجسا لا يعتبر حدثا باتّفاق الفقهاء‏.‏ واختلفوا فيما إذا كان نجسا، فقال الحنفيّة‏:‏ ما يخرج من غير السّبيلين من النّجاسة حدث ينقض الوضوء بشرط أن يكون سائلا جاوز إلى محلّ يطلب تطهيره ولو ندبا، كدم وقيح وصديد عن رأس جرح، وكقيء ملأ الفم من مرّة أو علق أو طعام أو ماء، لا بلغم، وإن قاء دما أو قيحا نقض وإن لم يملأ الفم عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمّد، ويشترط عند الحنابلة أن يكون كثيرا إلاّ الغائط والبول فلا تشترط فيهما الكثرة عندهم‏.‏ والقول بأنّ النّجس الخارج من غير السّبيلين حدث هو قول كثير من الصّحابة والتّابعين‏.‏ منهم‏:‏ ابن مسعود وابن عبّاس وزيد بن ثابت وابن عمر، وسعيد بن المسيّب والحسن البصريّ وقتادة والثّوريّ وإسحاق‏.‏ والدّليل على ذلك ما ورد في الأحاديث، منها‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏الوضوء من كلّ دم سائل‏}‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف، فليتوضّأ ثمّ ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلّم‏}‏ ولأنّ الدّم ونحوه نجاسة خارجة من البدن فأشبه الخارج من السّبيلين‏.‏ ووجه ما اشترطه الحنابلة من الكثرة في غير الغائط والبول أنّ ابن عبّاس قال في الدّم‏:‏ إذا كان فاحشا فعليه الإعادة، ولما ورد أنّ ابن عمر رضي الله عنهما عصر بثرة فخرج دم فصلّى ولم يتوضّأ‏.‏ وقال المالكيّة والشّافعيّة وهو قول ربيعة وأبي ثور وابن المنذر‏:‏ الخارج من غير السّبيلين لا يعتبر حدثا، لما روى أبو داود عن جابر قال‏:‏ ‏{‏خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - يعني في غزوة ذات الرّقاع - فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين، فحلف أن لا أنتهي حتّى أهريق دما في أصحاب محمّد، فخرج يتبع أثر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فنزل النّبيّ صلى الله عليه وسلم منزلا، فقال‏:‏ من رجل يكلؤنا ‏؟‏ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقال‏:‏ كونا بفم الشّعب قال‏:‏ فلمّا خرج الرّجلان إلى فم الشّعب اضطجع المهاجريّ وقام الأنصاريّ يصلّي، وأتى الرّجل، فلمّا رأى شخصه عرف أنّه ربيئة للقوم، فرماه بسهم فوضعه فيه، فنزعه حتّى رماه بثلاثة أسهم ثمّ ركع وسجد، ثمّ انتبه صاحبه، فلمّا عرف أنّهم قد نذروا به هرب، ولمّا رأى المهاجريّ ما بالأنصاريّ من الدّم‏:‏ قال‏:‏ سبحان اللّه، ألا أنبهتني أوّل ما رمى ‏؟‏ قال‏:‏ كنت في سورة أقرؤها، فلم أحبّ أن أقطعها‏}‏‏.‏ ولما روي أنّه عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏قاء فلم يتوضّأ‏}‏‏.‏ واستثنى المالكيّة والشّافعيّة من هذا الحكم ما خرج من ثقبة تحت المعدة إن انسدّ مخرجه، وكذلك إذا لم ينسدّ في قول عند المالكيّة، فينتقض الوضوء‏.‏

ثانيا‏:‏ الحدث الحكميّ

11 - الحدث الحكميّ هو ما يكون سببا لخروج الحدث الحقيقيّ غالبا فيقام السّبب مقام المسبّب احتياطا‏.‏ فيأخذ حكم الحدث الحقيقيّ شرعا، ويدخل في هذا النّوع‏:‏ - زوال العقل أو التّمييز وذلك بالنّوم أو السّكر أو الإغماء أو الجنون أو نحوها‏.‏ وهذه الأسباب متّفق عليها بين المذاهب في الجملة‏.‏ واستدلّ الفقهاء لنقض الوضوء بالنّوم بحديث صفوان بن عسّال قال‏:‏ ‏{‏كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنّا سفرا أن لا ننزع ثلاثة أيّام ولياليهنّ إلاّ من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم‏}‏‏.‏ وبما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏العين وكاء السّه فمن نام فليتوضّأ‏}‏‏.‏ واختلفت عباراتهم في كيفيّة النّوم النّاقض للوضوء‏:‏ فقال الحنفيّة‏:‏ النّوم النّاقض هو ما كان مضطجعا أو متّكئا أو مستندا إلى شيء لو أزيل منه لسقط، لأنّ الاضطجاع سبب لاسترخاء المفاصل فلا يعرى عن خروج شيء عادة، والثّابت عادة كالمتيقّن‏.‏ والاتّكاء يزيل مسكة اليقظة، لزوال المقعدة عن الأرض‏.‏ بخلاف النّوم حالة القيام والقعود والرّكوع والسّجود في الصّلاة وغيرها، لأنّ بعض الاستمساك باق، إذ لو زال لسقط، فلم يتمّ الاسترخاء‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ النّاقض هو النّوم الثّقيل بأن لم يشعر بالصّوت المرتفع، بقربه، أو بسقوط شيء من يده وهو لا يشعر، طال النّوم أو قصر‏.‏ ولا ينقض بالخفيف ولو طال، ويندب الوضوء إن طال النّوم الخفيف‏.‏ وعند الشّافعيّة خمسة أقوال‏:‏ الصّحيح منها أنّ من نام ممكّنا مقعدته من الأرض أو نحوها لم ينقض وضوءه، وإن لم يكن ممكّنا ينتقض على أيّة هيئة كان في الصّلاة وغيرها لحديث أنس قال‏:‏ كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء فينامون، أحسبه قال‏:‏ قعودا حتّى تخفق رءوسهم ثمّ يصلّون ولا يتوضّئون‏.‏ وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏ليس على من نام قائما أو قاعدا وضوء حتّى يضع جنبه إلى الأرض‏}‏ ويندب الوضوء عندهم إلاّ مع التّمكين خروجا من الخلاف‏.‏ وأمّا الحنابلة فقسموا النّوم إلى ثلاثة أقسام‏:‏ الأوّل‏:‏ نوم المضطجع فينقض به الوضوء قليلا كان أو كثيرا أخذا لعموم الحديثين السّابقين‏.‏ الثّاني‏:‏ نوم القاعد، فإن كان كثيرا نقض بناء على الحديثين، وإن كان يسيرا لم ينقض لحديث أنس الّذي ذكره الشّافعيّة‏.‏ الثّالث‏:‏ ما عدا هاتين الحالتين، وهو نوم القائم والرّاكع والسّاجد‏.‏ وقد روي عن أحمد في هذه الحالات روايتان‏:‏ إحداهما‏:‏ ينقض مطلقا للعموم في الحديثين، والثّانية‏:‏ لا ينقض، إلاّ إذا كثر، لحديث ابن عبّاس ‏{‏أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يسجد وينام ثمّ يقوم فيصلّي فقلت له‏:‏ صلّيت ولم تتوضّأ، وقد نمت، فقال إنّما الوضوء على من نام مضطجعا فإنّه إذا اضطجع استرخت مفاصله‏}‏‏.‏ والعبرة في تحديد الكثير واليسير في الصّحيح عندهم العرف‏.‏ أمّا السّكر والجنون والإغماء فدليل نقض الوضوء بها أنّها أبلغ في إزالة المسكة من النّوم، لأنّ النّائم يستيقظ بالانتباه، بخلاف المجنون والسّكران والمغمى عليه‏.‏ ولتعريف هذه الأمور ومعرفة حكمها وأثرها على الوضوء يرجع إلى مصطلحاتها‏.‏

المباشرة الفاحشة دون الجماع

12 - وتفسيرها، كما قال الكاسانيّ من الحنفيّة‏:‏ أن يباشر الرّجل المرأة بشهوة وينتشر لها وليس بينهما ثوب ولم ير بللا‏.‏ وقال في الدّرّ‏:‏ أن تكون بتماسّ الفرجين ولو بين المرأتين أو الرّجلين مع الانتشار ولو بلا بلل‏.‏ فهذه تنقض الوضوء عند جمهور الفقهاء - إلاّ محمّدا من الحنفيّة - فعن أبي أمامة أنّه قال‏:‏ ‏{‏بينما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المسجد، ونحن قعود معه، إذ جاء رجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ إنّي أصبت حدّا، فأقمه عليّ، فسكت عنه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ أعاد فقال‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ إنّي أصبت حدّا فأقمه عليّ، فسكت عنه‏.‏ وأقيمت الصّلاة‏.‏ فلمّا انصرف نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم قال أبو أمامة‏:‏ فاتّبع الرّجل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين انصرف واتّبعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنظر ما يردّ على الرّجل فلحق الرّجل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ إنّي أصبت حدّا فأقمه عليّ‏.‏ قال أبو أمامة‏:‏ فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أرأيت حين خرجت من بيتك أليس قد توضّأت فأحسنت الوضوء ‏؟‏ قال‏:‏ بلى يا رسول اللّه‏.‏ قال‏:‏ ثمّ شهدت الصّلاة معنا فقال‏:‏ نعم يا رسول اللّه‏.‏ قال‏:‏ فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ فإنّ اللّه قد غفر لك حدّك، أو قال ذنبك‏}‏‏.‏ ولأنّ المباشرة على الصّفة الّتي ذكرنا لا تخلو عن خروج المذي عادة إلاّ أنّه يحتمل أن جفّ بحرارة البدن فلم يقف عليه أو غفل عن نفسه لغلبة الشّبق فكانت سببا مفضيا إلى الخروج، وهو المتحقّق في مقام وجوب الاحتياط‏.‏

التقاء بشرتي الرّجل والمرأة

13 - جمهور الفقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ لمس بشرتي الرّجل والمرأة حدث ينقض الوضوء في الجملة، لكن تختلف عباراتهم في الشّروط والتّفصيل‏.‏ فقال المالكيّة‏:‏ الّذي ينقض الوضوء هو اللّمس بعضو أصليّ أو زائد يلتذّ صاحبه به عادة، ولو لظفر أو شعر أو سنّ، ولو بحائل خفيف يحسّ اللّامس فوقه بطراوة الجسد، إن قصد اللّذّة أو وجدها بدون القصد، قالوا‏:‏ وممّن يلتذّ به عادة الأمرد والّذي لم تتمّ لحيته، فلا نقض بلمس جسد أو فرج صغيرة لا تشتهى عادة، ولو قصد‏.‏ اللّذّة أو وجدها، كما لا تنقض بلمس محرم بغير لذّة، أمّا القبلة بفم فناقضة ولا تشترط فيها اللّذّة ولا وجودها‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ هو لمس بشرتي الذّكر والأنثى اللّذين بلغا حدّا يشتهى، ولو لم يكونا بالغين، ولا فرق في ذلك بين أن يكون بشهوة أو إكراه أو نسيان، أو يكون الذّكر ممسوحا أو خصيّا أو عنّينا، أو المرأة عجوزا شوهاء، أو العضو زائدا أو أصليّا سليما أو أشلّ أو أحدهما ميّتا‏.‏ والمراد بالبشرة ظاهر الجلد‏.‏ وفي معناها اللّحم، كلحم الأسنان واللّسان واللّثة وباطن العين، فخرج ما إذا كان على البشرة حائل ولو رقيقا‏.‏ والملموس في كلّ هذا كاللّامس في نقض وضوئه في الأظهر‏.‏ ولا ينقض بلمس المحرم في الأظهر، ولا صغيرة، وشعر، وسنّ، وظفر في الأصحّ، كما لا ينقض بلمس الرّجل الرّجل والمرأة المرأة والخنثى مع الخنثى أو مع الرّجل أو المرأة ولو بشهوة، لانتفاء مظنّتها‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ مسّ بشرة الذّكر بشرة أنثى أو عكسه لشهوة من غير حائل غير طفلة وطفل ولو كان اللّمس بزائد أو لزائد أو شلل، ولو كان الملموس ميّتا أو عجوزا أو محرما أو صغيرة تشتهى، ولا ينقض وضوء الملموس بدنه ولو وجد منه شهوة، ولا بلمس شعر وظفر وسنّ وعضو مقطوع وأمرد مسّه رجل ولا مسّ خنثى مشكل، ولا بمسّه رجلا أو امرأة، ولا بمسّ الرّجل رجلا، ولا المرأة المرأة ولو بشهوة فيهم‏.‏ هذا، ويستدلّ الجمهور في اعتبارهم اللّمس من الأحداث بما ورد في الآية من قوله تعالى‏.‏ ‏{‏أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النّساء‏}‏ أي لمستم كما قرئ به، فعطف اللّمس على المجيء من الغائط ورتّب عليهما الأمر بالتّيمّم عند فقد الماء، فدلّ على أنّه حدث كالمجيء من الغائط‏.‏ وليس معناه ‏(‏أو جامعتم‏)‏ لأنّه خلاف الظّاهر، إذ اللّمس لا يختصّ بالجماع‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلمسوه بأيديهم‏}‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لعلّك لمست‏}‏‏.‏ أمّا ما اشترطه المالكيّة من قصد اللّذّة أو وجودها والحنابلة من أن يكون اللّمس بالشّهوة فللجمع بين الآية وبين الأخبار الّتي تدلّ على عدم النّقض بمجرّد الالتقاء كما سيأتي‏.‏ أمّا الحنفيّة فلا يعتبرون مسّ المرأة من الأحداث مطلقا، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كنت أنام بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما‏.‏ وعنها أنّه صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثمّ خرج إلى الصّلاة ولم يتوضّأ‏.‏

مسّ فرج الآدميّ

14 - ذكر الشّافعيّة والمالكيّة وهو رواية عند الحنابلة أنّ مسّ فرج الآدميّ حدث ينقض الوضوء في الجملة، ولكن اختلفت عباراتهم في الشّروط والتّفصيل‏:‏ فقال المالكيّة‏:‏ ينقض الوضوء مطلق مسّ ذكر الماسّ البالغ المتّصل ولو كان خنثى مشكلا ببطن أو جنب لكفّ أو إصبع ولو كانت الإصبع زائدة وبها إحساس‏.‏ ولا يشترط فيه التّعمّد أو الالتذاذ‏.‏ أمّا مسّ ذكر غيره فيجري على حكم اللّمس من تقييده بالقصد أو وجدان اللّذّة‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ النّاقض مسّ قبل الآدميّ ذكرا كان أو أنثى من نفسه أو غيره متّصلا أو منفصلا ببطن الكفّ من غير حائل‏.‏ وكذا ‏(‏في الجديد‏)‏ حلقة دبره ولو فرج الميّت والصّغير ومحلّ الجبّ والذّكر الأشلّ وباليد الشّلّاء على الأصحّ، لا برأس الأصابع وما بينهما‏.‏ وقال الحنابلة في الرّواية الّتي تجعل مسّه حدثا‏:‏ النّاقض مسّ ذكر الآدميّ إلى أصول الأنثيين مطلقا سواء أكان الماسّ ذكرا أم أنثى، صغيرا أو كبيرا بشهوة أو غيرها من نفسه أو غيره، لا مسّ منقطع ولا محلّ القطع، ويكون المسّ ببطن الكفّ أو بظهره أو بحرفه غير ظفر، من غير حائل، ولو بزائد‏.‏ كما ينقض مسّ حلقة دبر منه أو من غيره، ومسّ امرأة فرجها الّذي بين شفريها أو فرج امرأة أخرى، ومسّ رجل فرجها ومسّها ذكره ولو من غير شهوة‏.‏ والدّليل على أنّ مسّ الفرج حدث ما رواه بسر بن صفوان أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏من مسّ ذكره فلا يصلّ حتّى يتوضّأ‏}‏ وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ ‏{‏من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر وجب عليه الوضوء‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏أيّما امرأة مسّت فرجها فلتتوضّأ‏}‏‏.‏ ونصّ الحنفيّة - وهو رواية أخرى عند الحنابلة أنّ مسّ الفرج لا يعتبر من الأحداث فلا ينقض الوضوء، لحديث طلق بن عليّ عن أبيه ‏{‏عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه سئل عن الرّجل يمسّ ذكره في الصّلاة فقال‏:‏ هل هو إلاّ بضعة منك‏}‏‏.‏ قال الحنفيّة‏:‏ يغسل يده ندبا لحديث ‏{‏من مسّ ذكره فليتوضّأ‏}‏ أي ليغسل يده جمعا بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏هل هو إلاّ بضعة منك‏}‏ حين سئل عن الرّجل يمسّ ذكره بعدما يتوضّأ وفي رواية في الصّلاة‏.‏

القهقهة في الصّلاة

15 - جمهور الفقهاء وهم المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - لا يعتبرون القهقهة من الأحداث مطلقا، فلا ينتقض الوضوء بها أصلا ولا يجعلون فيها وضوءا، لأنّها لا تنقض الوضوء خارج الصّلاة فلا تنقضه داخلها، ولأنّها ليست خارجا نجسا، بل هي صوت كالكلام والبكاء‏.‏ وذكر الحنفيّة في الأحداث الّتي تنقض الوضوء القهقهة في الصّلاة إذا حدثت من مصلّ بالغ يقظان في صلاة كاملة ذات ركوع وسجود، سواء أكان متوضّئا أم متيمّما أم مغتسلا في الصّحيح، وسواء أكانت القهقهة عمدا أم سهوا، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏من ضحك في الصّلاة قهقهة فليعد الوضوء والصّلاة معا‏}‏‏.‏ والقهقهة ما يكون مسموعا لجيرانه، والضّحك ما يسمعه هو دون جيرانه، والتّبسّم ما لا صوت فيه ولو بدت أسنانه‏.‏ قالوا‏:‏ القهقهة تنقض الوضوء وتبطل الصّلاة معا، والضّحك يبطل الصّلاة خاصّة، والتّبسّم لا يبطل شيئا‏.‏ وعلى ذلك فلا يبطل وضوء صبيّ ونائم بالقهقهة في الصّلاة على الأصحّ عند الحنفيّة، كما لا ينقض وضوء من قهقه خارج الصّلاة، أو من كان في صلاة غير كاملة، كصلاة الجنازة وسجدة التّلاوة‏.‏ ثمّ قيل‏:‏ إنّ القهقهة من الأحداث عندهم، وقيل‏:‏ لا بل وجب الوضوء بها عقوبة وزجرا، لأنّ المقصود بالصّلاة إظهار الخشوع والخضوع والتّعظيم للّه تعالى، والقهقهة تنافي ذلك فناسب انتقاض وضوئه زجرا له‏.‏ والرّاجح أنّها ليست حدثا وإلاّ لاستوى فيها جميع الأحوال مع أنّها مخصوصة بأن تكون في الصّلاة الكاملة من مصلّ بالغ‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ ورجّح في البحر القول الثّاني لموافقته القياس، لأنّها ليست خارجا نجسا بل هي صوت كالكلام والبكاء، ولموافقته للأحاديث المرويّة فيها، إذ ليس فيها إلاّ الأمر بإعادة الوضوء والصّلاة ولا يلزم منه كونها حدثا‏.‏

16 - وفائدة الخلاف في القولين تظهر في جواز مسّ المصحف وكتابة القرآن، فمن جعلها حدثا منع كسائر الأحداث، ومن أوجب الوضوء عقوبة وزجرا جوّز‏.‏

أكل لحم الجزور

17 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء كأكل سائر الأطعمة لما روى ابن عبّاس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏الوضوء ممّا يخرج وليس ممّا يدخل‏}‏ ولما روى جابر قال‏:‏ ‏{‏كان آخر الأمرين من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء ممّا مسّته النّار‏}‏ ولأنّه مأكول أشبه سائر المأكولات في عدم النّقض، والأمر بالوضوء فيه محمول على الاستحباب أو الوضوء اللّغويّ وهو غسل اليدين‏.‏ وصرّح الحنابلة - وهو أحد قولي الشّافعيّ - بأن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء على كلّ حال نيئا ومطبوخا، عالما كان الآكل أو جاهلا‏.‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏توضّئوا من لحوم الإبل ولا تتوضّئوا من لحوم الغنم‏}‏‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّ وجوب الوضوء من أكل لحم الجزور تعبّديّ لا يعقل معناه فلا يتعدّى إلى غيره، فلا يجب الوضوء بشرب لبنها، ومرق لحمها، وأكل كبدها وطحالها وسنامها وجلدها وكرشها ونحوه‏.‏

غسل الميّت

18 - ذهب جمهور الفقهاء وهو قول بعض الحنابلة‏:‏ إلى عدم وجوب الوضوء بتغسيل الميّت، لأنّ الوجوب يكون من الشّرع، ولم يرد في هذا نصّ فبقي على الأصل‏.‏ ولأنّه غسل آدميّ فأشبه غسل الحيّ، وما روي عن أحمد في هذا محمول على الاستحباب‏.‏ ويرى أكثر الحنابلة أنّ من غسّل الميّت أو بعضه ولو في قميص يجب عليه الوضوء سواء أكان المغسول صغيرا أم كبيرا، ذكرا أم أنثى، مسلما أم كافرا‏.‏ لما روي عن ابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم أنّهما كانا يأمران غاسل‏.‏ الميّت بالوضوء، ولأنّ الغالب فيه أنّه لا يسلم أن تقع يده على فرج الميّت فتقام مظنّة ذلك مقام حقيقته كما أقيم النّوم مقام الحدث‏.‏

الرّدّة

19 - الرّدّة - وهي الإتيان بما يخرج من الإسلام بعد تقرّره - حدث حكميّ تنقض الوضوء عند الحنابلة وهو المشهور عند المالكيّة، فالمرتدّ إذا عاد إلى الإسلام ورجع إلى دين الحقّ فليس له الصّلاة حتّى يتوضّأ وإن كان متوضّئا قبل ردّته ولم ينقض وضوءه بأسباب أخرى‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أوحي إليك وإلى الّذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك‏}‏ والطّهارة عمل‏.‏ ونقل عن ابن القاسم من المالكيّة استحباب الوضوء في هذه الحالة‏.‏ ولم يعدّ الحنفيّة والشّافعيّة الرّدّة من أسباب الحدث فلا ينقض الوضوء بها عندهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة‏}‏ فشرط الموت بعد الرّدّة لحبوط العمل - كما قال ابن قدامة‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏ردّة‏)‏

الشّكّ في الحدث

20 - ذهب جمهور الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الشّكّ لا الوضوء‏.‏ فلو أيقن بالطّهارة ‏(‏أي علم سبقها‏)‏ وشكّ في عروض الحدث بعدها فهو على الطّهارة، ومن أيقن بالحدث وشكّ في الطّهارة فهو على الحدث، لأنّ اليقين لا يزول بالشّكّ، والأصل في ذلك ما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لم يخرج فلا يخرجنّ من المسجد حتّى يسمع صوتا أو يجد ريحا‏}‏‏.‏ ولو تيقّنهما ولم يعلم الآخر منهما، مثل من تيقّن أنّه كان في وقت الظّهر متطهّرا مرّة ومحدثا أخرى ولا يعلم أيّهما كان لاحقا يأخذ بضدّ ما قبلهما عند الحنابلة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة، وذكره بعض الحنفيّة، وعلى ذلك فإن كان قبلهما محدثا فهو الآن متطهّر لأنّه تيقّن الطّهارة وشكّ في تأخّر الحدث عنها والأصل عدم تأخّره، وإن كان قبلهما متطهّرا فهو الآن محدث، لأنّه تيقّن الحدث وشكّ في تأخّر الطّهارة عنه، والأصل عدم تأخّرها، فإن لم يعلم ما قبلهما لزمه الوضوء لتعارض الاحتمالين من غير مرجّح‏.‏ والوجه الثّاني عند الشّافعيّة لا ينظر إلى ما قبلهما ويلزمه الوضوء‏.‏ والمشهور عند الحنفيّة أنّه لو تيقّنهما وشكّ في السّابق فهو متطهّر‏.‏ أمّا المالكيّة فقد صرّحوا بنقض الوضوء بشكّ في حدث بعد طهر علم، فإن أيقن بالوضوء ثمّ شكّ فلم يدر أأحدث بعد الوضوء أم لا فليعد وضوءه إلاّ أن يكون الشّكّ مستنكحا‏.‏ قال الحطّاب‏:‏ هذا إذا شكّ قبل الصّلاة، أمّا إذا صلّى ثمّ شكّ هل أحدث أم لا ففيه قولان‏.‏ وذكر في التّاج والإكليل أنّ من شكّ أثناء صلاته هل هو على وضوء أم لا فتمادى على صلاته وهو على شكّه ذلك، فلمّا فرغ من صلاته استيقن أنّه على وضوئه فإنّ صلاته مجزئة، لأنّه دخل في الصّلاة بطهارة متيقّنة، فلا يؤثّر فيها الشّكّ الطّارئ‏.‏ أمّا إذا طرأ عليه الشّكّ في طهارته قبل دخوله في الصّلاة فوجب ألا يدخل في الصّلاة إلاّ على طهارة متيقّنة‏.‏ وينتقض الوضوء عندهم أيضا بشكّ في السّابق من الوضوء والحدث سواء كانا محقّقين أو مظنونين أو مشكوكين أو أحدهما محقّقا أو مظنونا والآخر مشكوكا أو أحدهما محقّقا والآخر مظنونا‏.‏ وقال في البدائع‏:‏ لو شكّ في بعض وضوئه - وهو أوّل ما شكّ - غسل الموضع الّذي شكّ فيه لأنّه على يقين من الحدث فيه، وإن صار الشّكّ في مثله عادة له بأن يعرض له كثيرا لم يلتفت إليه، لأنّه من باب الوسوسة فيجب قطعها‏.‏ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إنّ الشّيطان يأتي أحدكم فينفخ بين أليتيه فيقول أحدثت أحدثت فلا ينصرف حتّى يسمع صوتا أو يجد ريحا‏}‏‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏شكّ‏)‏ ‏(‏ووسوسة‏)‏‏.‏

حكم الحدث

21 - الحدث إمّا أن يكون أكبر فيوجب الغسل، أو أصغر فيوجب الوضوء فقط، أمّا أحكام الحدث الأكبر وأسبابه من الجنابة والحيض والنّفاس فينظر تفصيله في مصطلحاتها ومصطلح‏:‏ ‏(‏غسل‏)‏‏.‏ وفيما يأتي أحكام الحدث الأصغر‏:‏

أوّلا‏:‏ ما لا يجوز بالحدث الأصغر

أ - ‏(‏الصّلاة‏)‏‏:‏

22 - يحرم بالمحدث ‏(‏حيث لا عذر‏)‏ الصّلاة بأنواعها بالإجماع لحديث الصّحيحين‏:‏ ‏{‏لا يقبل اللّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتّى يتوضّأ‏}‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏لا صلاة لمن لا وضوء له‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا تقبل صلاة بغير طهور‏}‏ وهو يعمّ الفرض والنّفل، ومنها صلاة الجنازة باتّفاق الفقهاء‏.‏ وفي معنى الصّلاة سجدتا التّلاوة والشّكر وخطبة الجمعة عند بعض الفقهاء، وحكي عن الشّعبيّ وابن جرير الطّبريّ جواز الصّلاة على الجنائز بغير وضوء ولا تيمّم‏.‏ وإذا كان هناك عذر كمن قطعت يداه ورجلاه وبوجهه جراحة - كما ذكره الحنفيّة أو لم يجد ماء ولا ترابا مع ضيق الوقت كما قال الشّافعيّة - صلّى وجوبا بغير طهارة وتفصيله في مصطلح ‏(‏فقد الطّهورين‏)‏ هذا إذا كان محدثا قبل دخوله في الصّلاة‏.‏

23 - أمّا إذا طرأ عليه الحدث وهو في الصّلاة، فجمهور الفقهاء، وهم المالكيّة والشّافعيّة وهو الصّحيح عند الحنابلة يرون بطلان الصّلاة، غلبة كان الحدث أو نسيانا، سواء أكان المصلّي فذّا أم مأموما أم إماما، لكن لا يسري بطلان صلاة الإمام على صلاة المأمومين عند من يجيزون الاستخلاف كما سيأتي في الفقرة التّالية‏.‏ وعلى ذلك فمن سبقه الحدث في الصّلاة تبطل صلاته ويلزمه استئنافها، لما روى عليّ بن طلق قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إذا فسا أحدكم في الصّلاة فلينصرف فليتوضّأ وليعد الصّلاة‏}‏ ولأنّه فقد شرطا من شروط الصّلاة في أثنائها على وجه لا يعود إلاّ بعد زمن طويل وعمل كثير ففسدت صلاته‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إن سبق المصلّي حدث توضّأ وبنى لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي، فلينصرف، فليتوضّأ ثمّ ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلّم‏}‏ لأنّ البلوى فيما سبق فلا يلحق به ما يتعمّده‏.‏ والاستئناف أفضل تحرّزا عن شبهة الخلاف‏.‏ وقد فصّل الكاسانيّ ذلك فقال‏:‏ إذا سبقه الحدث ثمّ تكلّم أو أحدث متعمّدا أو ضحك أو قهقه أو أكل أو شرب أو نحو ذلك لا يجوز له البناء لأنّ هذه الأفعال منافية للصّلاة في الأصل فلا يسقط اعتبار المنافي إلاّ لضرورة ولا ضرورة، وكذا إذا جنّ أو أغمي عليه أو أجنب لأنّه لا يكثر وقوعه فكان للبناء منه بدّ وكذا لو أدّى ركنا من أركان الصّلاة مع الحدث أو مكث بقدر ما يتمكّن فيه من أداء ركن لأنّه عمل كثير ليس من أعمال الصّلاة وله منه بدّ، وكذا لو استقى من البئر وهو لا يحتاج إليه ولو مشى إلى الوضوء فاغترف الماء من الإناء أو استقى من البئر وهو محتاج إليه فتوضّأ جاز له البناء لأنّ الوضوء أمر لا بدّ للبناء منه والمشي والاغتراف والاستقاء عند الحاجة من ضرورات الوضوء، ولو افتتح الصّلاة بالوضوء ثمّ سبقه الحدث فلم يجد ماء تيمّم وبنى لأنّ ابتداء الصّلاة بالتّيمّم عند فقد الماء جائز فالبناء أولى، وفي بيان كيفيّة البناء قال الكاسانيّ‏:‏ المصلّي لا يخلو إمّا أن كان منفردا أو مقتديا أو إماما‏.‏ فإن كان منفردا فانصرف وتوضّأ فهو بالخيار إن شاء أتمّ صلاته في الموضع الّذي توضّأ فيه وإن شاء عاد إلى الموضع الّذي افتتح الصّلاة فيه، لأنّه إذا أتمّ الصّلاة حيث هو فقد سلمت صلاته عن المشي لكنّه صلّى صلاة واحدة في مكانين، وإن عاد إلى مصلّاه فقد أدّى جميع الصّلاة في مكان واحد لكن مع زيادة مشي فاستوى الوجهان فيخيّر، وإن كان مقتديا فانصرف وتوضّأ فإن لم يفرغ من الصّلاة فعليه أن يعود لأنّه في حكم المقتدي بعد ولو لم يعد وأتمّ بقيّة صلاته في بيته لا يجزيه‏.‏ ثمّ إذا عاد ينبغي أن يشتغل أوّلا بقضاء ما سبق به في حال تشاغله بالوضوء، لأنّه لاحق فكأنّه خلف الإمام فيقوم مقدار قيام الإمام من غير قراءة، ومقدار ركوعه وسجوده، ولا يضرّه إن زاد أو نقص، ولو تابع إمامه أوّلا ثمّ اشتغل بقضاء ما سبق به بعد تسليم الإمام جازت صلاته خلافا لزفر، وإن كان إماما يستخلف ثمّ يتوضّأ ويبني على صلاته، والأمر في موضع البناء وكيفيّته على نحو ما سبق في المقتدي، لأنّه بالاستخلاف تحوّلت الإمامة إلى الثّاني وصار هو كواحد من المقتدين به‏.‏

استخلاف الإمام في حالة الحدث

24 - للإمام إذا سبقه الحدث أن يستخلف من يتمّ بهم الصّلاة عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة، لأنّ عمر رضي الله عنه لمّا طعن أخذ بيد عبد الرّحمن بن عوف فقدّمه فأتمّ بهم الصّلاة، وكان ذلك بمحضر الصّحابة وغيرهم ولم ينكره منكر فكان إجماعا، ومثله عند الشّافعيّة ما لو تعمّد الحدث أو أبطل الصّلاة‏.‏ وفي مقابل الأظهر عند الشّافعيّة والرّواية الثّانية للحنابلة لا يجوز الاستخلاف قال الشّافعيّة‏:‏ لأنّها صلاة واحدة فلا تصحّ بإمامين معا، وقال الحنابلة‏:‏ لأنّه فقد شرط صحّة الصّلاة فتبطل صلاة المأمومين ببطلان صلاته كما لو تعمّد الحدث‏.‏ ولجواز الاستخلاف شروط وتفصيل ينظر في مصطلح ‏(‏استخلاف‏)‏‏.‏

ب - الطّواف‏:‏

25 - جمهور الفقهاء على عدم جواز الطّواف للمحدث، سواء أكان الطّواف فرضا أم واجبا أم نفلا، في نسك أم في غيره، ويعتبرون الطّهارة شرطا لصحّة الطّواف، لأنّه في حكم الصّلاة لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏الطّواف حول البيت مثل الصّلاة، إلاّ أنّكم تتكلّمون فيه، فمن تكلّم فيه فلا يتكلّمنّ إلاّ بخير‏}‏‏.‏ والحنفيّة في الصّحيح عندهم عدّوا الطّهارة في الطّواف من الواجبات، وبعض الحنفيّة وهو قول عند الحنابلة على أنّها من السّنن‏.‏ قال في البدائع‏:‏ فإن طاف محدثا جاز مع النّقصان، لأنّ الطّواف بالبيت شبيه بالصّلاة، ومعلوم أنّه ليس بصلاة حقيقة، فلكونه طوافا حقيقة يحكم بالجواز، ولكونه شبيها بالصّلاة يحكم بالكراهة‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏طواف‏)‏‏.‏

ج - مسّ المصحف‏:‏

26 - لا يجوز للمحدث مسّ المصحف كلّه أو بعضه عند فقهاء المذاهب الأربعة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يمسّه إلاّ المطهّرون‏}‏ ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏لا تمسّ القرآن إلاّ وأنت طاهر‏}‏ واتّفقوا على جواز تلاوته لمن كان محدثا حدثا أصغر بغير لمس‏.‏ واستثنى بعضهم من المنع مسّه في حالات خاصّة كما إذا كان بحائل أو عود طاهرين أو في وعائه وعلاقته، أو لمعلّم ومتعلّم لغرض التّعليم، أو كان حمله في حال الحدث غير مقصود، كأن كان في صندوق ضمن الأمتعة، ويكون القصد حمل الأمتعة وفي داخلها قرآن‏.‏ ولتفصيل كلّ هذه المسائل مع آراء الفقهاء راجع مصطلح ‏(‏مصحف‏)‏‏.‏

27 - ويجوز مسّ وحمل كتب التّفسير ورسائل فيها قرآن في حالة الحدث إذا كان التّفسير أكثر من القرآن عند جمهور الفقهاء‏.‏ أمّا إذا كان القرآن أكثر أو مساويا للتّفسير أو يكون القرآن مكتوبا على الدّراهم والدّنانير ففي مسّه للمحدث تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح ‏(‏مصحف‏)‏‏.‏

28 - هذا وما يحرم على المحدث حدثا أصغر يحرم على المحدث حدثا أكبر ‏(‏الجنب والحائض والنّفساء‏)‏ بطريق الأولى، لأنّ الحدث الأكبر أغلظ من الحدث الأصغر‏.‏ وزيادة على ذلك يحرم على المحدث حدثا أكبر ما يأتي‏:‏

1 - تلاوة القرآن الكريم بقصد التّلاوة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ تلاوة‏)‏‏.‏

2 - الاعتكاف‏:‏ كما فصّل في مصطلح ‏(‏اعتكاف‏)‏‏.‏

3 - المكث في المسجد باتّفاق الفقهاء‏.‏ أمّا دخول المسجد عبورا أو مجتازا، فأجازه الشّافعيّة والحنابلة ومنعه الحنفيّة والمالكيّة إلاّ لضرورة‏.‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إنّ المسجد لا يحلّ لجنب ولا لحائض‏}‏‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏مسجد‏)‏‏.‏ ويحرم بالحيض والنّفاس علاوة على ذلك الصّيام‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ حيض، ونفاس‏)‏‏.‏

ثانيا‏:‏ ما يرفع به الحدث

29 - يرفع الحدث الأكبر بالغسل، والأصغر بالغسل وبالوضوء باتّفاق الفقهاء‏.‏ وينظر تفصيلهما في مصطلحي‏:‏ ‏(‏غسل، ووضوء‏)‏‏.‏ أمّا التّيمّم فهو بدل من الغسل والوضوء، وجمهور الفقهاء على أنّه بدل ضروريّ لا يرفع الحدث لكنّه يباح للمتيمّم الصّلاة به ونحوها للضّرورة مع قيام الحدث حقيقة‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إنّ التّيمّم بدل مطلق للوضوء والغسل، فيرفع الحدث إلى وقت وجود الماء، فيجوز به ما يجوز بالوضوء والغسل مطلقا‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏تيمّم‏)‏‏.‏

حدّ الحرابة

انظر‏:‏ حرابة

حدّ الرّدّة

انظر‏:‏ ردّة

حدّ الزّنى

انظر‏:‏ زنى

حدّ السّكر

انظر‏:‏ سكر

حدّ القذف

انظر‏:‏ قذف